ابْنَيْ آدَمَ {إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ} [المائدة:27] ثُمَّ قَالَ: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ} [المائدة:29] وَلَمْ يَدْفَعْهُ عَنْ نَفْسِهِ لَمَّا أَرَادَ قَتْلَهُ وَعَلَى ذَلِكَ اعْتَمَدَ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ؛ وَلِأَنَّهُ تَعَارَضَتْ مَفْسَدَةٌ أَنْ يَقْتُلَ أَوْ يُمَكِّنَ مِنْ الْقَتْلِ، وَالتَّمْكِينُ مِنْ الْمَفْسَدَةِ أَخَفُّ مَفْسَدَةً مِنْ مُبَاشَرَةِ الْمَفْسَدَةِ نَفْسِهَا فَإِذَا تَعَارَضَتَا سَقَطَ اعْتِبَارُ الْمَفْسَدَةِ الدُّنْيَا بِدَفْعِ الْمَفْسَدَةِ الْعُلْيَا فَهَذَا أَقْرَبُ الْفُرُوقِ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ تَرْكِ دَفْعِ الصَّائِلُ، وَبَيْنَ تَرْكِ الْغِذَاءِ وَالشَّرَابِ حَتَّى يَمُوتَ أَنَّ تَرْكَ الْغِذَاءِ هُوَ السَّبَبُ الْعَامُّ فِي الْمَوْتِ لَمْ يُضِفْ إلَيْهِ غَيْرَهُ، وَلَا بُدَّ أَنْ يُضَافَ فِعْلُ الصَّائِلِ لِلتَّمْكِينِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ تَرْكِ الْغِذَاءِ أَنَّهُ يَحْرُمُ وَبَيْنَ تَرْكِ الدَّوَاءِ فَلَا يَحْرُمُ أَنَّ الدَّوَاءَ غَيْرُ مُنْضَبِطِ النَّفْعِ فَقَدْ يُفِيدُ وَقَدْ لَا يُفِيدُ وَالْغِذَاءُ ضَرُورِيُّ النَّفْعِ، وَوَافَقَنَا الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ الْفَحْلَ الصَّائِلَ وَالْمَجْنُونَ وَالصَّغِيرَ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُبَاحُ لَهُ الدَّفْعُ وَيَضْمَنُ وَاتَّفَقُوا إذَا كَانَ آدَمِيًّا بَالِغًا عَاقِلًا أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ. لَنَا وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الضَّمَانِ. الثَّانِي الْقِيَاسُ عَلَى الْآدَمِيِّ. الثَّالِثُ الْقِيَاسُ عَلَى الدَّابَّةِ الْمَعْرُوفَةِ بِالْأَذَى أَنَّهَا تَقْتُلُ، وَلَا تُضْمَنُ إجْمَاعًا، وَلَا يَلْزَمُنَا إذَا غَصَبَهُ فَصَالَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ ضَمِنَ هُنَالِكَ بِالْغَصْبِ لَا بِالدَّفْعِ، وَإِلَّا إذَا اُضْطُرَّ لَهُ لِجُوعٍ فَأَكَلَهُ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ؛ لِأَنَّ الْجُوعَ الْقَاتِلَ فِي نَفْسِ الْجَامِعِ لَا فِي نَفْسِ الصَّائِلِ وَالْقَتْلُ بِالصِّيَالِ مِنْ جِهَةِ الصَّائِلِ احْتَجُّوا بِوُجُوهٍ الْأَوَّلِ أَنَّ مُدْرِكَ عَدَمِ الضَّمَانِ إنَّمَا هُوَ إذْنُ الْمَالِكِ لَا جَوَازُ الْفِعْلِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَذِنَ لَهُ فِي قَتْلِ عَبْدِهِ لَمْ يَضْمَنْ، وَلَوْ أَكَلَهُ لِمَجَاعَةٍ ضَمِنَهُ. الثَّانِي أَنَّ الْآدَمِيَّ لَهُ قَصْدٌ وَاخْتِيَارٌ فَلِذَلِكَ لَمْ يَضْمَنْ وَالْبَهِيمَةُ لَا اخْتِيَارَ لَهَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ حَفَرَ بِئْرًا فَطَرَحَ إنْسَانٌ نَفْسَهُ فِيهَا لَمْ يَضْمَنْهُ، وَلَوْ طَرَحَتْ بَهِيمَةٌ نَفْسَهَا فِيهَا ضُمِنَتْ وَجِنَايَةُ الْعَبْدِ تَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ وَجِنَايَةُ الْبَهِيمَةِ لَا تَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهَا. الثَّالِثُ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «جُرْحُ الْعَجْمَاءِ جُبَارٌ» فَلَوْ لَمْ يَضْمَنْ لَمْ يَكُنْ جُبَارًا كَالْآدَمِيِّ وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ الضَّمَانَ يَتَوَقَّفُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الْفِعْلِ بِدَلِيلِ أَنَّ الصَّيْدَ إذَا صَالَ عَلَى مُحْرِمٍ لَمْ يَضْمَنْهُ أَوْ صَالَ عَلَى الْعَبْدِ سَيِّدُهُ فَقَتَلَهُ الْعَبْدُ أَوْ الْأَبُ عَلَى ابْنِهِ فَقَتَلَهُ ابْنُهُ لَا يَضْمَنُونَ لِجَوَازِ الْفِعْلِ وَعَنْ الثَّانِي أَنَّ الْبَهِيمَةَ لَهَا اخْتِيَارٌ اعْتَبَرَهُ الشَّرْعُ؛ لِأَنَّ الْكَلْبَ لَوْ اسْتَرْسَلَ بِنَفْسِهِ لَمْ يُؤْكَلْ صَيْدُهُ، وَالْبَعِيرُ الشَّارِدُ يَصِيرُ حُكْمُهُ