ثانياً: ففعل حاطب رضي الله عنه لم يكن في حقيقته لا "مظاهرة" ولا "إعانة" ولا "ممالأة" للكفار على المسلمين -والتي هي مناط التكفير هنا- وإنما كان خيانةً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -،حيث أفشى سره وأظهر ما أمر بكتمانه، إلا أن ما زاد هذه بشاعة وتغليظاً هو أن إفشاءه كان للمشركين؛ ولذلك قربت صورته من المظاهرة وشابهتها ولم تكن إياها في الحقيقة حتى قال عمر في حق حاطب رضي الله عنهما: [إِنَّهُ قَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالمُؤْمِنِينَ، فَدَعْنِي فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ] البخاري (?)
وفي رواية عند الطبري أن عمر قال بعدما سأله النبي - صلى الله عليه وسلم -:أليس قد شهد بدراً: [وَلَكِنَّهُ قَدْ نَكَثَ وَظَاهَرَ أَعْدَاءَكَ عَلَيْكَ] (?)
فمن المعلوم أن مجرد إفشاء سر النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي أمر بكتمه يعد عظيماً في أصله حتى ولو كان لآحاد المسلمين والخلان المصافين، كما قال سبحانه وتعالى: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4)} [التحريم] فكيف إذا بُلِّغ خبره إلى أعدائه المشركين.
ولهذا قال الإمام ابن كثير - رحمه الله- بعد أن ذكر عدة أقوال في سبب نزول قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال/27] قال: [وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ، وَإِنْ صَحَّ أَنَّهَا وَرَدَتْ عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ، فَالْأَخْذُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ عِنْدَ الْجَمَاهِيرِ مِنَ الْعُلَمَاءِ. وَالْخِيَانَةُ تَعُمُّ الذُّنُوبَ الصِّغَارَ وَالْكِبَارَ اللَّازِمَةَ وَالْمُتَعَدِّيَةَ.] (?)
فقريب من فعل حاطب رضي الله عنه ما قيل إن أبا لبابة بن عبد المنذر رضي الله عنهعَنْ مَعْبَدِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيِّ، قَالَ:" وَحَاصَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خَمْسًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً حَتَّى جَهِدَهُمُ الْحِصَارُ، وَقَذَفَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ. وَقَدْ كَانَ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ دَخَلَ