الجاسوس لا ترى حقيقتها غالباً؛ لأنه يمارس مهنته في الخفاء والإسرار، وإنما تُلمس آثارها لا يغير من صدق وصف المظاهرة عليها شيئاً، فالعبرة ليست في إظهار هذا الشيء أو إخفائه، وإنما في وجوده في الحقيقة أو انعدامه، وإلا فما الفرق في أصل العمل وانطباق الوصف عليه بين رجل ارتدى اللباس المعتاد بين قومه وتظاهر بالصلاح وحسن السمت وجمال الهيئة تمويهاً وتضليلاً وهو يسعى جاهداً لبلوغ الغايات والأهداف التي طالبه بها "أولياؤه" سواء كان هذا الهدف معسكراً، أو مركزاً، أو بيتاً، أو شخصاً، أو تجمعاً، أو نحو ذلك، ثم جمَّع ما استطاع من المعلومات وأوصلها كاملة إلى أعداء الإسلام وبين رجل آخر يريد الأهداف نفسها إلا أنه قصدها بلباسه العسكري المميز، ووقف مع "أوليائه" وقوفاً ظاهراً معلناً يفعل فعلهم ويقاتل قتالهم ويبدي مظاهرتهم؟!
فإذا كان فعل هذا الأخير تولياً ظاهراً، وإعانة حقيقية، ومظاهرة جلية، لا يمارى فيها ولا يُختلف عليها، فكيف لا يكون فعل ذلك الجاسوس تولياً وإعانة ومظاهرة سواء بسواء؟،وما الذي يمنع من وصف فعله بها ويجيزه في حق ذلك الرجل العسكري؟،وهل للألبسة والشارات والهيئات مدخلٌ في التفريق بين الأحكام في مثل هذا الموطن؟ خاصة - وكما ذكرت من قبل - فإن حركة هذا العسكري، ووضع خططه، واختيار أهدافه، ومباشرة هجومه، مبنيٌّ أساساً على المعلومات و (العورات) التي تحصلت عنده من خلال جهود الجواسيس و"معونتهم" ومشاركتهم، فهم شركاء له في كل خطة توضع، وكل هدف يقصد، وكل عمل ينفذ، وكل دمار يقع، وكل أرواح تزهق، فالجواسيس ركن ركين وأساسٌ متينٌ في تكوين وتسيير وتدبير شؤون الجيوش، ولهذا فكونهم موالين ومناصرين لها وللجهات التي يعملون لحسابها أمرٌ في غاية الظهور والجلاء وإن كانت أعمالهم التي يمارسونها في منتهى السر والخفاء.
والإخفاء والاستتار لا يغير من حقيقة الوصف شيئاً، وعدم اطّلاع الناس على حقيقة الشيء لا يقلب وصفه، قال تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} [التوبة/101].