المبحث الثالث
ردة الجاسوس المسلم
إن مثل هذا العمل - وهو إطلاع العدو على عوارت المسلمين ونقلها إليهم - يدخل في موالاتهم، بل هو من أعظم أنواع المناصرة لهم، لأنهم بذلك يخلصون إلى ما لا تستطيع أن تناله جيوشهم أو تقنياتهم، ورب خبر واحد ينقله عين من عيونهم المبثوثة يحدث من النكاية في الأرواح والأعراض والأموال ما لا تحدثه الآلاف المؤلفة من جُنودهم المجندة، ومن رأى وعايش وقائع الحرب الصليبية المعاصرة، ولمس مدى اعتماد قواتها على هذا النوع من الجنود الأخفياء- أعني جنود الجواسيس - أدرك مدى الأضرار الفادحة التي لقيها المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها بسببهم، وعلم يقيناً أن ما يحدثه الجندي الذي يرتدي لباس الجندية ويقود سيارته أو دبابته أو طائرته لا يساوي شيئاً بالنسبة لما يتسبب فيه الجندي الخفي الذي يتلون بأوصافه المختلفة تلون الحرباء، ويخادع مخادعة الثعلب، ومع ذلك ففتكه بالإسلام والمسلمين لا يتوقف طرفة عين، بل ما كان لتلك الجيوش الجرارة والقوات المعلنة والتقنيات المتقدمة أن تؤدي دروها بدون هؤلاء الجواسيس.
ولذا وجب التنبيه في هذا الموطن أننا وإن عرّفنا الجاسوس بما مضى اعتباراً للمعنى اللغوي وجرياً على ما مشى عليه الفقهاء إلا أن واقع الحال اليوم -خاصة في الحرب الصليبية- تعد هذه الصورة فيه فرداً من أفراد المعنى العام للجواسيس العصريين إن لم تكن أقلهم نصيباً منه، إذ إن ما يقوم به هؤلاء المجرمون لا يقتصر فقط على نقل المعلومات المجردة والبحث عن الأسرار، بل هم يشاركون مشاركة مباشرة عملية في ارتكاب الجرائم جنباً إلى جنب مع أعداء الله تعالى، فعمليات القصف الدقيقة إنما تتم عن طريق الصورايخ الموجهة التي تعتمد على الشرائح التي يتسلل الجواسيس ويغامرون لإلقائها على الأهداف المقصودة، وعمليات الإنزال الليلي لا تتم إلا بصحبة جاسوسٍ أو أكثر من العارفين بالطرق الخبيرين بالقرى والبيوت ومداخلها ومخارجها، والتعرف على المعتقلين وشخصياتهم وتفاصيل أعمالهم كل ذلك غالباً ما يستند فيه الكفرة على عملائهم المتجسسين، ولذا فلا