تشددا، وكذلك معلوم أن المرأة إذا أقرت أن رجلا زنى بها فإقرارها على نفسها لا يجري عليه ولكن قرائن الواقعة هنا قضت عليه بالتهمة كقيء الخمر مع أنه في نفس الأمر كان بريئاً، ولو لم يقم صاحب الفعلة ويعترف بما اقترف لرجم الرجل، فإذا ساغ هذا في حادثة عابرة، وقضية جزئية لا يتعلق فسادها إلا بامرأة واحدة لم تُصِب في اتهامها للرجل، فكيف بالأمر إذا كان تعلقه بالحفاظ على دين الأمة، ودماء المسلمين، ورفع تسلط الكافرين، مع أن أكثر الشواهد والضمائم التي يُعتمد عليها في حق المتهمين بالتجسس تكون مقطوعاً بها لا يتطرق إليها أدنى شك، واحتمال إصابة مَن لا ذنب له منهم بعد الاجتهاد والتحري والتثبت كالاحتمال الذي كاد الرجل المغيث أن يُقتل به، أو أدنى والله تعالى أعلم.
قال العلامة ابن القيم -رحمه الله-: [فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بِرَجْمِ الْمُغِيثِ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ وَلَا إقْرَارٍ؟ اعْتِبَارُ الْقَرَائِنِ وَشَوَاهِدُ الْأَحْوَالِ قِيلَ: هَذَا مِنْ أَدَلِّ الدَّلَائِلِ عَلَى اعْتِبَارِ الْقَرَائِنِ وَالْأَخْذِ بِشَوَاهِدِ الْأَحْوَالِ فِي التُّهَمِ، وَهَذَا يُشْبِهُ إقَامَةَ الْحُدُودِ بِالرَّائِحَةِ وَالْقَيْءِ كَمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ، وَإِقَامَةَ حَدِّ الزِّنَا بِالْحَبَلِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ عُمَرُ وَذَهَبَ إلَيْهِ فُقَهَاءُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَحْمَدُ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ، وَكَذَلِكَ الصَّحِيحُ أَنَّهُ يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الْمُتَّهَمِ بِالسَّرِقَةِ إذَا وُجِدَ الْمَسْرُوقُ عِنْدَهُ، فَهَذَا الرَّجُلُ لَمَّا أُدْرِكَ وَهُوَ يَشْتَدُّ هَرَبًا وَقَالَتْ الْمَرْأَةُ: هَذَا هُوَ الَّذِي فَعَلَ بِي، وَقَدْ تَعْتَرِفُ بِأَنَّهُ دَنَا مِنْهَا وَأَتَى إلَيْهَا وَادَّعَى أَنَّهُ كَانَ مُغِيثًا لَا مُرِيبًا، وَلَمْ يَرَ أُولَئِكَ الْجَمَاعَةُ غَيْرَهُ، كَانَ فِي هَذَا أَظْهَرُ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّهُ صَاحِبُهَا، وَكَانَ الظَّنُّ الْمُسْتَفَادُ مِنْ ذَلِكَ لَا يُقْصَرُ عَنْ الظَّنِّ الْمُسْتَفَادِ مِنْ شَهَادَةِ الْبَيِّنَةِ، وَاحْتِمَالُ الْغَلَطِ وَعَدَاوَةِ الشُّهُودِ كَاحْتِمَالِ الْغَلَطِ أَوْ عَدَاوَةِ الْمَرْأَةِ هَهُنَا، بَلْ ظَنُّ عَدَاوَةِ الْمَرْأَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فِي غَايَةِ الِاسْتِبْعَادِ؛ فَنِهَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ هَذَا ظَاهِرٌ لَا يَسْتَبْعِدُ ثُبُوتَ الْحَدِّ بِمِثْلِهِ شَرْعًا كَمَا يُقْتَلُ فِي الْقَسَامَةِ بِاللَّوْثِ الَّذِي لَعَلَّهُ دُونَ هَذَا فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ؛ فَهَذَا الْحُكْمُ مِنْ أَحْسَنِ الْأَحْكَامِ وَأَجْرَاهَا عَلَى قَوَاعِدِ الشَّرْعِ، وَالْأَحْكَامُ الظَّاهِرَةُ تَابِعَةٌ لِلْأَدِلَّةِ الظَّاهِرَةِ مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْأَقَارِيرِ وَشَوَاهِدِ الْأَحْوَالِ، وَكَوْنُهَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ قَدْ تَقَعُ غَيْرَ مُطَابَقَةٍ وَلَا تَنْضَبِطُ أَمْرٌ لَا يَقْدَحُ فِي كَوْنِهَا طُرُقًا وَأَسْبَابًا لِلْأَحْكَامِ، وَالْبَيِّنَةُ لَمْ تَكُنْ مُوجِبَةً بِذَاتِهَا لِلْحَدِّ، وَإِنَّمَا ارْتِبَاطُ الْحَدِّ بِهَا ارْتِبَاطُ الْمَدْلُولِ بِدَلِيلِهِ، فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ دَلِيلٌ