وأما في حالتنا، فإن كثيراً من القرائن والشواهد والأحوال تجعل الحكم بانتساب الشخص إلى سلك الجواسيس قطعياً وتلبسَه بهذه الجريمة لا شك فيه، ووقوعُ بعض الحالات الجزئية المحتملة والتي قد يقتل فيها مَن كان بريئاً في حقيقة الأمر-مع التحري والاحتياط- ليست بأشد نكارة من قتل (ترس الأسرى) ممن استيقنتْ براءته، ومع ذلك جوز الشرع الرميَ مع القطع بوقوع القتل.

وقد صوَّر أبو حامد الغزالي -رحمه الله- مسألة التترس تصويراً دقيقاً وهو يطرح إشكالها من حيث ارتكاب أحد المحظورين فقال: [فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَجُوزُ الْمَصِيرُ إلَى هَذَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَفِي مَسْأَلَةِ التُّرْسِ وَقَدْ قَدَّمْتُمْ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ إذَا خَالَفَتْ النَّصَّ لَمْ تُتَّبَعْ كَإِيجَابِ صَوْمِ شَهْرَيْنِ عَلَى الْمُلُوكِ إذَا جَامَعُوا فِي نَهَارِ رَمَضَانَ، وَهَذَا يُخَالِفُ قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} [النساء:93] وقَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ} [الإسراء:33] وَأَيُّ ذَنْبٍ لِمُسْلِمٍ يَتَتَرَّسُ بِهِ كَافِرٌ؟ فَإِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّا نُخَصِّصُ الْعُمُومَ بِصُورَةٍ لَيْسَ فِيهَا خَطَرٌ كُلِّيٌّ فَلْنُخَصِّصْ الْعِتْقَ بِصُورَةٍ يَحْصُلُ بِهَا الِانْزِجَارُ عَنْ الْجِنَايَةِ حَتَّى يَخْرُجَ عَنْهَا الْمُلُوكُ، فَإِذًا غَايَةُ الْأَمْرِ فِي مَسْأَلَةِ التُّرْسِ أَنْ يُقْطَعَ بِاسْتِئْصَالِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، فَمَا بَالُنَا نَقْتُلُ مَنْ لَمْ يُذْنِبْ قَصْدًا وَنَجْعَلُهُ فِدَاءً لِلْمُسْلِمِينَ وَنُخَالِفُ النَّصَّ فِي قَتْلِ النَّفَسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى؟ قُلْنَا: لِهَذَا نَرَى الْمَسْأَلَةَ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ، وَلَا يَبْعُدُ الْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ، وَيَتَأَيَّدُ بِمَسْأَلَةِ السَّفِينَةِ وَأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ قَتْلُ ثُلُثِ الْأُمَّةِ لِاسْتِصْلَاحِ ثُلُثَيْهَا تَرْجِيحًا لِلْكَثْرَةِ، إذْ لَا خِلَافَ فِي أَنَّ كَافِرًا لَوْ قَصَدَ قَتْلَ عَدَدٍ مَحْصُورٍ كَعَشْرَةٍ مَثَلًا وَتَتَرَّسَ بِمُسْلِمٍ فَلَا يَجُوزُ قَتْلُ التُّرْسِ فِي الدَّفْعِ بَلْ حُكْمُهُمْ كَحُكْمِ عَشْرَةٍ أُكْرِهُوا عَلَى قَتْلٍ أَوْ اُضْطُرُّوا فِي مَخْمَصَةٍ إلَى أَكْلِ وَاحِدٍ.] (?)

المسألة الثالثة: أن الضرر الذي يُخشى وقوعه في مسألة التترس لا يد للأسرى فيه ولا مشاركة لهم في إيقاعه لا بالبيقين ولا بالظن ولا بالوهم فليس لهم أدنى ملابسة في إيصال الضرر بالمسلمين بل إن حالتهم على مقابلة ذلك تماماً إذ هم مكرهون على ما هم له كارهون، ولو استطاعوا لكانوا معينين لإخوانهم المسلمين في دفع الضرر عنهم، أما في حالة

طور بواسطة نورين ميديا © 2015