وأما الثانية: وهي المفسدة المتوقعة وليست المحققة، فهي احتمال إصابة دم مسلمٍ بريء على سبيل الخطأ ممن اتهم بالتجسس وليس حاله كذلك في نفس الأمر، وليس سفك دم المسلم بغير حق بالأمر الهين، فبهذا يصير المجاهدون متأرجحين بين حالين:
أولهما: السعي لرفع المفسدة (الواقعة) والمضرة القائمة من خلال تتبع الجواسيس، والاعتماد على القرائن والملابسات والأمارات والأحوال في إثبات التهمة عليهم، والتي يحصل بها اليقين -غالباً- في تحقيق ما اتهموا به، فيكونون بذلك قد كفوا شراً مستطيراً وفساداً عريضاً وأوهنوا شوكة أعدائهم.
ثانيهما: أن يتركوا أعداءهم يصولون ويجولون، ويقتلون ويدمرون، ويغتالون ويأسرون، ويداهمون ويقصفون، خشيةَ أن يُصيب المجاهدون بعض المسلمين البريئين، إذا حاولوا أن يمنعوا كل تلك المصائب من خلال تتبع الجواسيس واستنادهم في ذلك على الأمارات والعلامات والقرائن والملابسات والتي يعلم المرءُ معها يقيناً لصوق التهمة بصاحبها، ولكن لا سبيل له إلى إيجاد الشاهدين العدلين، وتحصيل الإقرار منه طائعاً مختاراً فيخلَّى سبيله، بل لا يتعرض له أصلاً، إما للعجز وإما لعدم الفائدة من ذلك، وبهذا يبقى الفساد العام الكبير (الواقع) مستمراً احترازاً من حصول المفسدة الخاصة (المتوقعة).
ولا شك أن قواعد الشرع وأصوله تأبى هذا ويتبين ذلك من خلال النقطة الآتية.
خامساً: اشتهر عند الفقهاء -رحمهم الله- ذكر مسألة التترس المعروفة، وهي فيما لو تترس الكفار بأسرى المسلمين، ليتقوا بهم رمي المسلمين لهم، لأنهم يعلمون أن المسلمين يحترزون من قتل إخوانهم، فيكون هذا (التترس) سبباً إما في زحفهم وهم آمنون، وإما في الحفاظ على أنفسهم وهم في حصونهم وقلاعهم، وفي هذه المسألة يقول شيخ الإسلام -رحمه الله-: [بَلْ لَوْ كَانَ فِيهِمْ قَوْمٌ صَالِحُونَ مِنْ خِيَارِ النَّاسِ وَلَمْ يُمْكِنْ قِتَالُهُمْ إلَّا بِقَتْلِ هَؤُلَاءِ لَقُتِلُوا أَيْضًا فَإِنَّ الْأَئِمَّةَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ لَوْ تَتَرَّسُوا بِمُسْلِمِينَ وَخِيفَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ إذَا لَمْ يُقَاتِلُوا فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ نَرْمِيَهُمْ وَنَقْصِدَ الْكُفَّارَ، وَلَوْ لَمْ نَخَفْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ جَازَ وَهِيَ أُولَئِكَ الْمُسْلِمِينَ أَيْضًا فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ.