فإمكان إقامة الحد مركب من القدرة على العقوبة مع كيفية إثباتها إما بالبينة أو الإقرار وهذا لا يتأتى في حالة الامتناع، ولا يحصل إلا حينما يكون الجاني في قبضة المسلمين وتحت قوة سلطانهم، ومن ثم إنزال العقوبة المناسبة التي يستحقها شرعا.

وتفريق الشريعة في العقوبات بين المقدور عليه والممتنع مشهور معلوم ولهذا قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: [الْعُقُوبَاتُ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا الشَّرِيعَةُ لِمَنْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: عُقُوبَةُ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ مِنْ الْوَاحِدِ وَالْعَدَدِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَالثَّانِي: عِقَابُ الطَّائِفَةِ الْمُمْتَنِعَةِ كَاَلَّتِي لَا يُقْدَرُ عَلَيْهَا إلَّا بِقِتَالِ. فَأَصْلُ هَذَا هُوَ جِهَادُ الْكُفَّارِ أَعْدَاءِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَكُلُّ مَنْ بَلَغَتْهُ دَعْوَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إلَى دِينِ اللَّهِ الَّذِي بَعَثَهُ بِهِ فَلَمْ يَسْتَجِبْ لَهُ؛ فَإِنَّهُ يَجِبُ قِتَالُهُ {حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ}] (?)

وقال أيضاً: [وَالْفُقَهَاءُ وَإِنْ تَنَازَعُوا فِي قَتْلِ الْوَاحِدِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ مِنْ هَؤُلَاءِ فَلَمْ يَتَنَازَعُوا فِي وُجُوبِ قَتْلِهِمْ إذَا كَانُوا مُمْتَنِعِينَ. فَإِنَّ الْقِتَالَ أَوْسَعُ مِنْ الْقَتْلِ كَمَا يُقَاتَلُ الصَّائِلُونَ الْعُدَاةُ وَالْمُعْتَدُونَ الْبُغَاةُ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ إذَا قُدِرَ عَلَيْهِ لَمْ يُعَاقَبْ إلَّا بِمَا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِهِ. وَهَذِهِ النُّصُوصُ الْمُتَوَاتِرَةُ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْخَوَارِجِ قَدْ أَدْخَلَ فِيهَا الْعُلَمَاءُ لَفْظًا أَوْ مَعْنَى مَنْ كَانَ فِي مَعْنَاهُمْ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ الْخَارِجِينَ عَنْ شَرِيعَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ؛ بَلْ بَعْضُ هَؤُلَاءِ شَرٌّ مِنْ الْخَوَارِج الحرورية؛ مِثْلُ الخرمية وَالْقَرَامِطَةِ وَالْنُصَيْرِيَّة وَكُلِّ مِنْ اعْتَقَدَ فِي بَشَرٍ أَنَّهُ إلَهٌ أَوْ فِي غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ أَنَّهُ نَبِيٌّ وَقَاتَلَ عَلَى ذَلِكَ الْمُسْلِمِينَ: فَهُوَ شَرٌّ مِنْ الْخَوَارِج الحرورية.] (?)

ثانياً: أن عدم القدرة على النظر في هذه المسألة قضائياً ناتج عن أمرين:

الأول: عدم وجود الدولة الإسلامية الممكنة التي تعلوها أحكام الشريعة، إذ إن الديار التي تغلب عليها هؤلاء الكفرة وأجروا على أهلها أحكامهم قد صارت ديار حربٍ، وقتالُ المسلمين أصلاً لإقامة دولة الإسلام وبسط شريعته على الأنام.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015