وإنما البلاغة رتبة فوق إفهام المعنى، رتبة سمكها الامتياز في التعبير ومطابقته للحال، وأن يضفي الخطيب من أسلوبه على معانيه حلة من نور؛ ليتسنى للسامعين أن يتملوا معه جمال روائه وبراعة خياله.
لكن النقاد قد اختلفوا منذ زمن بعيد في الأصل الذي يرجع إليه جمال الأدب وجلاله، أهو الأسلوب أم المعنى أم هما معًا؟ والحق أن اللفظ والمعنى معًا عنصران من عناصر الأدب، وإنما نقول: عنصرين؛ لأن للنص الأدبي عناصر أخر لم يعرض لها القدماء، ولها في النقد الحديث تقدير وذيوع، وأهمها: العاطفة والخيال ومقوماته لا ينفرد أحدها بالسبق والامتياز، فلكل منها قيمة في جمال النص الأدبي وجلاله، فمن التعسف أن يتحاكم بعض النقاد إلى اللفظ وحده وبعضهم إلى المعنى وحده.
فإن تأثرنا بالنص الأدبي لا ينشأ عن ألفاظ من حيث إنها أصوات مسموعة، وحروف مفردة، وكلمات مجردة تتوالى في النطق، وإنما ينشأ عن ما بين المعاني والألفاظ من الاتساق العجيب في لباقة اللفظ بتأدية المعنى، وملاءمة معنى الكلمة للمعنى التي تسبقها والتي تلحقها، ومطابقة الكلام لمقتضى الحال.
وإذًا فإن الصواب في النظر إلى الأسلوب والمعنى على أنهما وحدة لا تتجزأ؛ لأن سر البلاغة يرجع إلى روعة المعنى وسموه وتأثيره وطرافته، وإلى جزالة اللفظ وقوته أو رقته وفصاحته، فليس النص معنى منفصلًا عن اللفظ وليس لفظًا منفصلًا عن المعنى، بل هو مزيج من عناصر عدة؛ مزيج من الفكرة والعاطفة والخيال والتعبير، وليس من المستطاع فصل التعبير عن المعنى أو قطع المعنى عن التعبير؛ لأن النص الأدبي وليد اجتماعهما، كما يتحد الأكسجين والهيدروجين بنسبة 1:2 فيستحيلان إلى ماء، وللماء خواص غير خواص كل منهما منفردًا.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.