النّاس خلقا وأوزنهم حلما، حتّى إذا صار في رأسه رطل كان أخفّ من فراشة «1» ، وأكثر نزوا من جرادة رمضة «2» ، فإنّ المثل بها يضرب.
وكان سبب ما له عرف أصحابنا سكر البهائم. أنّ محمّد بن عليّ بن سليمان الهاشميّ لمّا شرب على علّويه كلب المطبخ، وعلى الدّهمان، وعلى شرّاب البصريّين، وعلى كلّ من نزع إليه من الأقطار، وتحدّاه من الشرّاب الجوادّ من الشّرّاب، أحبّ أن يشرب على الإبل من البخاتيّ والعراب، ثمّ على الظّلف من الجواميس والبقر، ثم على الخيل العتاق والبراذين، فلمّا فرغ من كلّ عظيم الجثة واسع الجفرة «3» . صار إلى الشاء والظّباء، ثمّ صار إلى النّسور والكلب وإلى ابن عرس، وحتّى أتاهم حاو فأرغبوه، فكان يحتال لأفواه الحيّات حتّى يصبّ في حاقّ «4» أجوافها بالأقماع المدنيّة، وبالمساعط، ويتّخذ لكلّ شيء شكله، وكان ملكا تواتيه الأمور، وتطيعه الرجال، فأبصروا تلك الاختلافات في هذه الأجناس المختلفة.
فخبّرني أبو إسحاق إبراهيم النّظام، وقد كان جالسه حينا- وكان إبراهيم مأمون اللّسان، قليل الزّلل والزّيغ في باب الصدق والكذب. ولم أزعم أنّه قليل الزّيغ والزّلل على أنّ ذلك قد كان يكون منه وإن كان قليلا، بل إنّما قلت على مثل قولك: فلان قليل الحياء، وأنت لست تريد هناك حياء البتة، وذلك أنّهم ربّما وضعوا القليل في موضع ليس. وإنما كان عيبه الذي لا يفارقه سوء ظنّه، وجودة قياسه على العارض والخاطر والسابق الذي لا يوثق بمثله. فلو كان بدل تصحيحه القياس التمس تصحيح الأصل الذي كان قاس عليه أمره على الخلاص، ولكنّه كان يظنّ ثمّ يقيس عليه وينسى أنّ بدء أمره كان ظنّا فإذا أتقن ذلك وأيقن، جزم عليه، وحكاه عن صاحبه حكاية المستبصر في صحّة معناه. ولكنّه كان لا يقول سمعت، ولا رأيت. وكان كلامه إذا خرج مخرج الشّهادة القاطعة لم يشكّ السامع أنّه إنّما حكى ذلك عن سماع قد امتحنه، أو عن معاينة قد بهرته.