ثمّ أعاد ذكر الكلب، ونبّأ عن حاله، بأن قال عزّ وجلّ: إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً. سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ. فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً
«1» وفي قولهم في الآية ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ
«2» دليل على أنّ الكلب رفيع الحال، نبيه الذكر، إذ جعل رابعهم، وعطف ذكره على ذكرهم، واشتقّ ذكره من أصل ذكرهم، حتّى كأنّه واحد منهم، ومن أكفائهم أو أشباههم أو ممّا يقاربهم. ولولا ذلك لقال: سيقولون ثلاثة معهم كلب لهم. وبين قول القائل معهم كلب لهم، وبين قوله رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ
«3» - فرق بيّن وطريق واضح.
فإن قلتم: هذا كلام لم يحكه الله تعالى عن نفسه، وإنّما حكاه عن غيره، وحيث يقول: ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ
«4» وقد صدقتم، والصّفة على ما ذكرتم؛ لأنّ الكلام لو كان منكرا لأنكره الله تعالى، ولو كان معيبا لعابه الله، فإذ حكاه ولم يعبه، وجعله قرآنا وعظّمه بذلك المعنى، ممّا لا ينكر في العقل ولا في اللغة، كان الكلام إذا كان على هذه الصفة مثله؛ إذ كان الله عزّ وجلّ المنزل له.
ومثل ذلك مثّل بعض المخالفين في القدر، فإنّه سأل بعض أصحابنا فقال: هل تعرف في كتاب الله تعالى أنّه يخبر عن الاستطاعة، أنّها قبل الفعل؟ قال: نعم، أتى كثير، من ذلك قوله تعالى قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ
«5» . قال المخالف: سألتك أن تخبرني عن الله، فأخبرتني عن عفريت لو كان بين يديّ لبزقت في وجهه! قال صاحبنا: أمّا سليمان النبيّ، صلى الله عليه وسلم، فقد ترك النّكير عليه، ولو كان مثل هذا القول كفرا وافتراء على الله، ومغالبة وتفويضا للمشيئة إلى النفس، لكان سليمان ومن حضره من المسلمين من الجنّ والإنس أحقّ بالإنكار، بل لم يكن العفريت في هذا الموضع هو الذي يسرع فيه