عقله منيحة من ربه، وأن استطاعته عاريّة عنده، وأنه إنما يستبقي النّعمة بإدامة الشّكر، والتعرّض لسلبها بإضاعة الشكر.
ثم حبّب إليها طلب الذّرء والسّفاد الذي يكون مجلبة للذرء «1» ، وحبّب إليها أولادها ونجلها وذرءها ونسلها، حتى قالوا: أكرم الإبل أشدّها حنينا، وأكرم الصّفايا أشدّها حبّا لأولادها. وزاوج بين أكثرها وجعل تألّفها مع بعضها من الطّروقة «2» إذا لم يكن الزّواج لها خلقا، وجعل إلف العرس لها عادة، وقوّاها على المسافدة، لتتمّ النعمة، وتعظم المنة، وألهمها المبالغة في التربية، وحسن التعبّد، وشدّة التفقّد، وسوّى في ذلك بين الجنس الذي يلقّم أولاده تلقيما، وبين الذي يرضعها إرضاعا، وبين الذي يزقّها زقّا، وبين ما يحضن وما لا يحضن. ومنها ما أخرجها من أرحام البيض وأرحام البطون كاسية، ومها ما أخرجها كاسية كاسبة، وأمتعها وألذّها، وجعلها نعمة على عباده، وامتحانا لشكرهم، وزيادة في معرفتهم، وجلاء لما يتراكم من الجهل على قلوبهم. فليس لهذا الكتاب ضدّ من جميع من يشهد الشهادة، ويصلّي إلى القبلة، ويأكل الذّبيحة ولا ضدّ من جميع الملحدين ممّن لا يقرّ بالبعث، وينتحل الشرائع وإن ألحد في ذلك وزاد ونقص، إلا الدّهري، فإن الذي ينفي الربوبيّة، ويحيل الأمر والنّهي، وينكر جواز الرّسالة، ويجعل الطّينة قديمة، ويجحد الثواب والعقاب، ولا يعرف الحلال والحرام، ولا يقرّ بأن في جميع العالم برهانا يدلّ على صانع ومصنوع، وخالق ومخلوق، ويجعل الفلك الذي لا يعرف نفسه من غيره، ولا يفصل بين الحديث والقديم، وبين المحسن والمسيء، ولا يستطيع الزيادة في حركته، ولا النّقصان من دورانه، ولا معاقبة للسّكون بالحركة، ولا الوقوف طرفة عين، ولا الانحراف عن الجهة- هو الذي يكون به جميع الإبرام والنّقض، ودقيق الأمور وجليلها، وهذه الحكم العجيبة، والتدابير المتقنة، والتأليف البديع، والتّركيب الحكيم، على حساب معلوم، ونسق معروف، على غاية من دقائق الحكمة وإحكام الصّنعة.
ولا ينبغي لهذا الدهريّ أيضا أن يعرض لكتابنا هذا وإن دلّ على خلاف مذهبه، ودعا إلى خلاف اعتقاده، لأن الدّهريّ ليس يرى أنّ في الأرض دينا أو نحلة أو شريعة أو ملة، ولا يرى للحلال حرمة ولا يعرفه ولا للحرام نهاية ولا يعرفه، ولا يتوقّع العقاب على الإساءة، ولا يترجّى الثواب على الإحسان. وإنما الصواب عنده والحقّ في حكمه،