فهذه النّحلة، وإن كانت ذبابة، فانظر قبل كل شيء في ضروب انتفاع ضروب الناس فيها، فإنّك تجدها أكبر من الجبل الشامخ، والفضاء الواسع.
وكلّ شيء وإن كان فيه من العجب العاجب، ومن البرهان النّاصع، ما يوسّع فكر العاقل، ويملأ صدر المفكّر، فإنّ بعض الأمور أكثر أعجوبة، وأظهر علامة. وكما تختلف برهاناتها في الغموض والظّهور، فكذلك تختلف في طبقات الكثرة، وإن شملتها الكثرة، ووقع عليها اسم البرهان.
ولعلّ هذا الجزء الذي نبتدئ فيه بذكر ما في الحشرات والهمج، أن يفضل من ورقه شيء، فنرفعه ونتمّه بجملة القول في الظّباء والذئاب، فإنّهما بابان يقصران عن الطوال، ويزيدان على القصار.
وقد بقي من الأبواب المتوسّطة والمقتصدة المعتدلة، التي قد أخذت من القصر لمن طلب القصر بحظّ، ومن الطّول لمن طلب الطّول بحظّ وهو القول في البقر، والقول في الحمير، والقول في كبار السّباع وأشرافها، ورؤسائها، وذوي النّباهة منها، كالأسد والنّمر، والببر وأشباه ذلك، مما يجمع قوّة أصل النّاب، والذّرب [1] ، وشحو [2] الفم، والسّبعيّة وحدّة البرثن، وتمكّنه في العصب، وشدّة القلب وصرامته عند الحاجة، ووثاقة خلق البدن، وقوّته على الوثب.
وسنذكر تسالم المتسالمة منها، وتعادي المتعادية منها، وما الذي أصلح بينها على السّبعيّة الصّرف، واستواء حالها في اقتيات اللّحمان، حتّى ربّما استوت فريستها في الجنس.
وقد شاهدنا غير هذه الأجناس يكون تعاديها من قبل هذه الأمور التي ذكرناها.
وليس فيما بين هذه السّباع بأعيانها تفاوت في الشّدّة، فتكون كالأسد الذي يطلب الفهد ليأكله، والفهد لا يطمع فيه ولا يأكله. فوجدنا التّكافؤ في القوّة والآلة من أسباب التّفاسد. وإنّ ذلك ليعمل في طباع عقلاء الإنس حتّى يخرجوا إلى تهارش السّباع، فما بالها لم تعمل هذا العمل في أنفس السّباع؟!