وَقَدْ نَدَبَهُ الشَّرْعُ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، إنْ شَاءَ اخْتَارَ جِهَةَ الْحِسْبَةِ فَأَقَامَهَا لِلَّهِ تَعَالَى , وَإِنْ شَاءَ اخْتَارَ جِهَةَ السَّتْرِ فَيَسْتُرُ عَلَى أَخِيهِ الْمُسْلِمِ , وَالسِّتْرُ أَوْلَى (?).
وَأَمَّا فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ أَسْبَابِ الْحُدُودِ نَحْوُ طَلَاقٍ وَإِعْتَاقٍ وَظِهَارٍ وَإِيلَاءٍ وَنَحْوِهَا مِنْ أَسْبَابِ الْحُرُمَاتِ تَلْزَمُهُ إقَامَةُ الشَّهَادَةِ حِسْبَةً لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَى إقَامَتِهَا مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ مِنْ أَحَدٍ مِنْ الْعِبَادِ (?).
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ (?): تَجِبُ الْمُبَادَرَةُ لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ فِي حَقِّ اللَّهِ إنْ اسْتَدَامَ فِيهِ التَّحْرِيمُ كَالْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ وَالرَّضَاعِ وَالْوَقْفِ , وَإِنْ كَانَ التَّحْرِيمُ يَنْقَضِي بِالْفَرَاغِ مِنْ مُتَعَلَّقِهِ كَالزِّنَى وَشُرْبِ الْخَمْرِ كَانَ مُخَيَّرًا فِي الرَّفْعِ وَعَدَمِهِ , وَالتَّرْكُ أَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى السَّتْرِ الْمَطْلُوبِ فِي غَيْرِ الْمُجَاهِرِ بِالْفِسْقِ.
وَفِي الْمَوَّاقِ أَنَّ سَتْرَ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى غَيْرِهِ وَاجِبٌ حِينَئِذٍ فَيَكُونُ تَرْكُ الرَّفْعِ وَاجِبًا (?).
وَذَكَرَ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ تَفْصِيلًا خُلَاصَتُهُ أَنَّ الزَّوَاجِرَ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا هُوَ زَاجِرٌ عَنْ الْإِصْرَارِ عَلَى ذَنْبٍ حَاضِرٍ , أَوْ مَفْسَدَةٍ مُلَابَسَةٍ لَا إثْمَ عَلَى فَاعِلِهَا وَهُوَ مَا قُصِدَ بِهِ دَفْعُ الْمَفْسَدَةِ الْمَوْجُودَةِ وَيَسْقُطُ بِانْدِفَاعِهَا (?).
30 - النَّوْعُ الثَّانِي: مَا يَقَعُ زَاجِرًا عَنْ مِثْلِ ذَنْبٍ مَاضٍ مُنْصَرِمٍ أَوْ عَنْ مِثْلِ مُفْسِدَةٍ مَاضِيَةٍ مُنْصَرِمَةٍ وَلَا يَسْقُطُ إلَّا بِالِاسْتِيفَاءِ وَهُوَ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا يَجِبُ إعْلَامُ مُسْتَحِقِّهِ لِيَبْرَأَ مِنْهُ أَوْ يَسْتَوْفِيَهُ , وَذَلِكَ كَالْقِصَاصِ فِي النُّفُوسِ وَالْأَطْرَافِ وَكَحَدِّ الْقَذْفِ , فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْرِفَ مُسْتَحِقَّهُ لِيَسْتَوْفِيَهُ أَوْ يَعْفُوَ عَنْهُ.
الضَّرْبُ الثَّانِي: مَا الْأَوْلَى بِالْمُتَسَبِّبِ إلَيْهِ سَتْرُهُ كَحَدِّ الزِّنَى وَالْخَمْرِ وَالسَّرِقَةِ. ثُمَّ قَالَ (?): وَأَمَّا الشُّهُودُ عَلَى هَذِهِ الْجَرَائِمِ , فَإِنْ تَعَلَّقَ بِهَا حُقُوقُ الْعِبَادِ لَزِمَهُمْ أَنْ يَشْهَدُوا بِهَا وَأَنْ يُعَرِّفُوا بِهَا أَرْبَابَهَا وَإِنْ كَانَتْ زَوَاجِرُهَا حَقًّا مَحْضًا لِلَّهِ فَإِنْ كَانَتْ الْمَصْلَحَةُ فِي إقَامَةِ الشَّهَادَةِ بِهَا , فَيَشْهَدُوا بِهَا مِثْلَ أَنْ يَطَّلِعُوا مِنْ إنْسَانٍ عَلَى تَكَرُّرِ الزِّنَى وَالسَّرِقَةِ وَالْإِدْمَانِ عَلَى شُرْبِ الْخُمُورِ وَإِتْيَانِ الذُّكُورِ فَالْأَوْلَى أَنْ يَشْهَدُوا عَلَيْهِ دَفْعًا لِهَذِهِ الْمَفَاسِدِ , وَإِنْ كَانَتْ الْمَصْلَحَةُ فِي السَّتْرِ عَلَيْهِ مِثْلَ زَلَّةٍ مِنْ هَذِهِ الزَّلَّاتِ تَقَعُ نُدْرَةً مِنْ ذَوِي الْهَيْئَاتِ ثُمَّ يُقْلِعُ عَنْهَا وَيَتُوبُ مِنْهَا فَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَشْهَدُوا لحديثِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ قَالَ بَلَغَنِى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لِرَجُلٍ مِنْ أَسْلَمَ يُقَالُ لَهُ هَزَّالٌ: «يَا هَزَّالُ لَوْ سَتَرْتَهُ