وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنِ الْعُرْسِ بْنِ عَمِيرَةَ الْكِنْدِىِّ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «إِذَا عُمِلَتِ الْخَطِيئَةُ فِى الأَرْضِ كَانَ مَنْ شَهِدَهَا فَكَرِهَهَا». وَقَالَ مَرَّةً «أَنْكَرَهَا». «كَمَنْ غَابَ عَنْهَا وَمَنْ غَابَ عَنْهَا فَرَضِيَهَا كَانَ كَمَنْ شَهِدَهَا» (?).
لِأَجْلِ ذَلِكَ عَهِدَ الشَّارِعُ الْحَكِيمُ إلَى الْأُمَّةِ أَنْ تَقُومَ طَائِفَةٌ مِنْهَا عَلَى الدَّعْوَةِ إلَى الْخَيْرِ وَإِسْدَاءِ النُّصْحِ لِلْأَفْرَادِ وَالْجَمَاعَاتِ , وَلَا تَخْلُصُ مِنْ عُهْدَتِهَا حَتَّى تُؤَدِّيَهَا طَائِفَةٌ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي هُوَ أَبْلَغُ أَثَرًا فِي اسْتِجَابَةِ الدَّعْوَةِ وَامْتِثَالِ الْأَوَامِرِ وَاجْتِنَابِ النَّوَاهِي. وَالْحِسْبَةُ وِلَايَةٌ شَرْعِيَّةٌ , وَوَظِيفَةٌ دِينِيَّةٌ تَلِي فِي الْمَرْتَبَةِ وَظِيفَةَ الْقَضَاءِ , إذْ إنَّ وِلَايَاتِ رَفْعِ الْمَظَالِمِ عَنْ النَّاسِ عَلَى الْعُمُومِ عَلَى ثَلَاثِ مَرَاتِبَ:
أَسْمَاهَا وَأَقْوَاهَا وِلَايَةُ الْمَظَالِمِ , وَتَلِيهَا وِلَايَةُ الْقَضَاءِ , وَتَلِيهَا وِلَايَةُ الْحِسْبَةِ (?). وَالْحِسْبَةُ مِنْ الْخُطَطِ الدِّينِيَّةِ الشَّرْعِيَّةِ كَالصَّلَاةِ وَالْفُتْيَا وَالْقَضَاءِ وَالْجِهَادِ , وَقَدْ جَمَعَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْوِلَايَاتِ الشَّرْعِيَّةَ فِي عِشْرِينَ وِلَايَةً , أَعْلَاهَا الْخِلَافَةُ الْعَامَّةُ , وَالْبَقِيَّةُ كُلُّهَا مُنْدَرِجَةٌ تَحْتَهَا , وَهِيَ الْأَصْلُ الْجَامِعُ لَهَا , وَكُلُّهَا مُتَفَرِّعَةٌ عَنْهَا , وَدَاخِلَةٌ فِيهَا , لِعُمُومِ نَظَرِ الْإِمَامِ فِي سَائِرِ أَحْوَالِ الْأُمَّةِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ , وَتَنْفِيذُ أَحْكَامِ الشَّرْعِ فِيهَا عَلَى الْعُمُومِ , وَقَدْ عُنِيَ الْأَئِمَّةُ بِوِلَايَةِ الْحِسْبَةِ عِنَايَةً كَبِيرَةً , وَوَضَعُوا فِيهَا الْمُؤَلَّفَاتِ مُفَصِّلِينَ أَحْكَامَهَا وَمَرَاتِبَهَا , وَأَرْكَانَهَا , وَشَرَائِطَهَا , وَتَأْصِيلِ مَسَائِلِهَا , وَوَضْعِ الْقَوَاعِدِ فِي مُهِمَّاتِهَا (?).
أَنْوَاعُ الْحِسْبَةِ (?):
9 - وِلَايَةُ الْحِسْبَةِ نَوْعَانِ: وِلَايَةٌ أَصْلِيَّةٌ مُسْتَحْدَثَةٌ مِنْ الشَّارِعِ , وَهِيَ الْوِلَايَةُ الَّتِي اقْتَضَاهَا التَّكْلِيفُ بِهَا لِتَثْبُتَ لِكُلِّ مَنْ طُلِبَتْ مِنْهُ. وَوِلَايَةٌ مُسْتَمَدَّةٌ وَهِيَ الْوِلَايَةُ الَّتِي يَسْتَمِدُّهَا مَنْ عُهِدَ إلَيْهِ فِي ذَلِكَ مِنْ الْخَلِيفَةِ أَوْ الْأَمِيرُ وَهُوَ الْمُحْتَسِبُ , وَعَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُجْمَعُ بَيْنَ الْوِلَايَتَيْنِ , لِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ بِهَا شَخْصِيًّا مِنْ جِهَةِ الشَّارِعِ وَمُكَلَّفٌ بِهَا كَذَلِكَ مِنْ قِبَلِ مَنْ لَهُ الْأَمْرُ.
أَمَّا غَيْرُهُ مِنْ النَّاسِ فَلَيْسَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ إلَّا الْوِلَايَةُ الَّتِي أَضْفَاهَا الشَّارِعُ عَلَيْهِ وَهِيَ الْوِلَايَةُ الْأَصْلِيَّةُ , وَهَذِهِ الْوِلَايَةُ كَمَا تَتَضَمَّنُ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ عَلَى وَجْهِ الطَّلَبِ مُبَاشَرَةً تَتَضَمَّنُ كَذَلِكَ الْقِيَامَ بِمَا يُؤَدِّي إلَى اجْتِنَابِ الْمُنْكَرِ , لَا عَلَى وَجْهِ الطَّلَبِ بَلْ عَلَى وَجْهِ الدُّعَاءِ وَالِاسْتِعْدَاءِ , وَذَلِكَ يَكُونُ بِالتَّقَدُّمِ إلَى الْقَاضِي بِالدَّعْوَى بِالشَّهَادَةِ لَدَيْهِ , أَوْ بِاسْتِعْدَاءِ الْمُحْتَسِبِ , وَتُسَمَّى الدَّعْوَى لَدَى الْقَاضِي بِطَلَبِ الْحُكْمِ بِإِزَالَةِ الْمُنْكَرِ دَعْوَى حِسْبَةٍ , وَلَا تَكُونُ إلَّا فِيمَا هُوَ حَقٌّ لِلَّهِ ,