يكن هذا الاحتساب مطلوبًا شرعًا، وإن كان المحتسب عليه قد ترك واجبًا، أو فعل محرمًا؛ لأن على المحتسب أن يتقي الله تعالى في عباده، وليس عليه هداهم، وليس من تقوى الله أن يتسبب باحتسابه في فوات معروف أكبر، أو حصول منكر أكبر؛ لأن الشرع إنما أوجب الحسبة لقمع الفساد وتحصيل الصلاح.
فإذا كان ما يترتب على الاحتساب مقدارًا من الفساد أكبر من الفساد القائم، أو يفوتُ من الصَّلاح مقدارًا أكبر من الصلاح الفائت؛ لم يكن هنا الاحتساب مما أمر به الشرع.
ولا شك أن ما قلناه يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال والظروف، وعلى المُحتسب أن يتبصر فيها، ويزن مَقَادير المعروف والمنكر، التي تنتج عن احتسابه، ثم يُقدم بعد ذلك على احتسابه أو يُحجم، وهذا كله بالنسبة الواقعة المعينة والشخص المُعين، أما بالنسبة للعموم فهو يأمر بالمعروف منكرًا، وينهي عن المنكر مطلقًا. ونذكر بأننا قد أفردنا هذه القاعدة بدرس مستقل، وهي قاعدة في تغيير المنكر، بعدما تحدثنا عن الركن الثاني من أركان الحسبة وهو المُحتسب فيه.
القاعدة الثالثة: الأخْذُ بالرِّفق ما أمكن ذلك: ومستند هذه القاعدة ما يأتي:
أولًا: قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله، ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف)).
ثانيًا: إنّ الإنسانَ بطبيعته، وما فُطِرَ عليه يقبل الأمر والنهي باللطف والرفق، ولين القول أكثر من قبوله عن طريق العنف، بل رُبَّمَا حمله العنف على الإصرار على المنكر، مراغمة للآمر وعنادًا له، ورُبّما دل على ما نقول قول الله تعالى لرسوله -صلى الله عليه وسلم-: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (آل عمران: 159) مع أنه -صلى الله عليه وسلم- لا يأمر إلا بالمعروف ولا ينطق إلا بالحق.