فِي تَأْوِيلِهِ لَمْ يُوجَدْ تَأْوِيلٌ قَرِيبٌ، وَالتَّأْوِيلُ الْبَعِيدُ يَأْبَاهُ أَهْلُ الْأُصُولِ، وَلِهَذَا لَمَّا رَأَى السهيلي تَصَادُمَ الْأَدِلَّةِ فِيهِ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى التَّرْجِيحِ فَوَقَفَ وَقَالَ: فَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَهَذَا يَصْلُحُ أَنْ يُعَدَّ قَوْلًا رَابِعًا فِيهِ، وَهُوَ الْوَقْفُ.
وَأَكْثَرُ مَا خَطَرَ لِي فِي تَأْوِيلِ الْحَدِيثِ وَجْهَانِ بَعِيدَانِ فَتَرَكْتُهُمَا، وَأَمَّا حَدِيثُ النَّسَائِيِّ فَتَأْوِيلُهُ قَرِيبٌ وَقَدْ فَتَحَ السهيلي بَابَهُ وَإِنْ لَمْ يَسْتَوْفِهِ، وَإِنَّمَا سَهُلَ التَّرْجِيحُ فِي جَانِبِ عبد الله مَعَ أَنَّ فِيهِ مُعَارِضًا قَوِيًّا وَهُوَ حَدِيثُ مُسْلِمٍ؛ لِأَنَّ ذَاكَ سَهْلٌ تَأْوِيلُهُ بِتَأْوِيلٍ قَرِيبٍ فِي غَايَةِ الْجَلَاءِ وَالْوُضُوحِ، وَقَامَتِ الْأَدِلَّةُ عَلَى رُجْحَانِ جَانِبِ التَّأْوِيلِ فَسَهُلَ الْمَصِيرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ رَأَيْتُ الْإِمَامَ أَبَا الْحَسَنِ الْمَاوَرْدِيَّ أَشَارَ إِلَى نَحْوِ مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ فخر الدين إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ كَتَصْرِيحِهِ، فَقَالَ فِي كِتَابِهِ " أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ ": لَمَّا كَانَ أَنْبِيَاءُ اللَّهِ صَفْوَةَ عِبَادِهِ وَخِيرَةَ خَلْقِهِ لِمَا كَلَّفَهُمْ مِنَ الْقِيَامِ بِحَقِّهِ وَالْإِرْشَادِ لِخَلْقِهِ اسْتَخْلَصَهُمْ مِنْ أَكْرَمِ الْعَنَاصِرِ، وَاجْتَبَاهُمْ بِمُحْكَمِ الْأَوَاصِرِ، فَلَمْ يَكُنْ لِنَسَبِهِمْ مِنْ قَدْحٍ وَلِمَنْصِبِهِمْ مَنْ جَرْحٍ؛ لِتَكُونَ الْقُلُوبُ لَهُمْ أَصْفَى، وَالنُّفُوسُ لَهُمْ أَوْطَا، فَيَكُونُ النَّاسُ إِلَى إِجَابَتِهِمْ أَسْرَعَ وَلِأَوَامِرِهِمْ أَطْوَعَ، وَأَنَّ اللَّهَ اسْتَخْلَصَ رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَطْيَبِ الْمَنَاكِحِ، وَحَمَاهُ مِنْ دَنَسِ الْفَوَاحِشِ، وَنَقَلَهُ مِنْ أَصْلَابٍ طَاهِرَةٍ إِلَى أَرْحَامٍ مُنَزَّهَةٍ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِ اللَّهِ {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء: 219] أَيْ: تَقَلُّبُكَ مِنْ أَصْلَابٍ طَاهِرَةٍ مِنْ أَبٍ بَعْدَ أَبٍ إِلَى أَنْ جَعَلَكَ نَبِيًّا، فَكَانَ نُورُ النُّبُوَّةِ ظَاهِرًا فِي آبَائِهِ، ثُمَّ لَمْ يُشْرِكْهُ فِي وِلَادَتِهِ مِنْ أَبَوَيْهِ أَخٌ وَلَا أُخْتٌ لِانْتِهَاءِ صَفْوَتِهِمَا إِلَيْهِ، وَقُصُورِ نَسَبِهِمَا عَلَيْهِ، لِيَكُونَ مُخْتَصًّا بِنَسَبٍ جَعَلَهُ اللَّهُ لِلنُّبُوَّةِ غَايَةً وَلِتَفَرُّدِهِ نِهَايَةً، فَيَزُولُ عَنْهُ أَنْ يُشَارَكَ فِيهِ وَيُمَاثَلَ فِيهِ، فَلِذَلِكَ مَاتَ عَنْهُ أَبَوَاهُ فِي صِغَرِهِ، فَأَمَّا أَبُوهُ فَمَاتَ وَهُوَ حَمْلٌ، وَأَمَّا أُمُّهُ فَمَاتَتْ وَهُوَ ابْنُ سِتِّ سِنِينَ، وَإِذَا خَبَرْتَ حَالَ نَسَبِهِ وَعَرَفْتَ طَهَارَةَ مَوْلِدِهِ عَلِمْتَ أَنَّهُ سُلَالَةُ آبَاءٍ كِرَامٍ، لَيْسَ فِي آبَائِهِ مُسْتَرْذَلٌ وَلَا مَغْمُوزٌ مُسْتَبْذَلٌ، بَلْ كُلُّهُمْ سَادَةٌ قَادَةٌ، وَشَرَفُ النَّسَبِ وَطَهَارَةُ الْمَوْلِدِ مِنْ شُرُوطِ النُّبُوَّةِ، انْتَهَى كَلَامُ الْمَاوَرْدِيِّ بِحُرُوفِهِ.
وَقَالَ أبو جعفر النحاس فِي " مَعَانِي الْقُرْآنِ " فِي قَوْلِهِ {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء: 219] رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: تَقَلُّبُهُ فِي الظُّهُورِ حَتَّى أَخْرَجَهُ نَبِيًّا. وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ الحافظ شمس الدين بن ناصر الدين الدمشقي، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
تَنَقَّلَ أَحْمَدُ نُورًا عَظِيمَا ... تَلَأْلَأَ فِي جِبَاهِ السَّاجِدِينَا
تَقَلَّبَ فِيهِمْ قَرْنًا فَقَرْنًا ... إِلَى أَنْ جَاءَ خَيْرُ الْمُرْسَلِينَا