الحاوي للفتاوي (صفحة 494)

فِيهِ كَيْفَ شَاءَ وَلَا يَخْرُجُ عَنْ مِلْكِهِ حَتَّى يُوقِفَهُ؟ فَإِنْ قِيلَ بِذَلِكَ فَفِي غَايَةِ السُّقُوطِ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ بِهِ فَحَائِطُ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ كَذَلِكَ، إِذِ الْحَرَمَانِ الشَّرِيفَانِ مُسْتَوِيَانِ فِي غَالِبِ الْأَحْكَامِ، وَقِيَاسُ الْحَرَمِ النَّبَوِيِّ عَلَى الْحَرَمِ الْمَكِّيِّ أَشْبَهُ مِنْ قِيَاسِهِ عَلَى سَائِرِ الْمَسَاجِدِ، لِمَا لَهُ مِنَ الْخُصُوصِيَّاتِ لَا سِيَّمَا مَعَ مَا وَرَدَ فِيهِ مِنَ النُّصُوصِ فِي هَذَا الْحُكْمِ بِعَيْنِهِ.

التَّاسِعُ: قَدْ ذَكَرَ الأقفهسي أَنَّ الملك الظاهر بيبرس هُوَ الَّذِي أَحْدَثَ الْمَقْصُورَةَ حَوْلَ الْحُجْرَةِ الشَّرِيفَةِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَأَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ زِيَادَةُ تَعْظِيمٍ وَحُرْمَةٍ لِلْحُجْرَةِ، ثُمَّ أَنْكَرَ الأقفهسي هَذَا الْفِعْلَ لِكَوْنِهِ حَجَرَ طَائِفَةً مِنَ الرَّوْضَةِ الشَّرِيفَةِ عَنْ صَلَاةِ النَّاسِ فِيهَا، وَصَارَ هَذَا الْقَدْرَ مَأْوَى النِّسَاءِ بِأَطْفَالِهِنَّ أَيَّامَ الْمَوْسِمِ، وَنَقَلَ عَنْ قاضي القضاة عز الدين بن جماعة أَنَّ ذَلِكَ ذُكِرَ للملك الظاهر فَسَكَتَ وَمَا أَجَابَ، ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا مِنْ أَهَمِّ مَا يُنْظَرُ فِيهِ انْتَهَى.

فَانْظُرْ إِلَى تَوَقُّفِ الْعُلَمَاءِ فِي هَذَا الْقَدْرِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ بِمَنْعٍ، بَلْ قُصِدَ التَّعْظِيمُ فِيهِ، وَالْحُرْمَةُ ظَاهِرٌ، فَكَيْفَ بِإِحْدَاثِ بَابٍ يَشْرَعُ أَوْ شَبَابِيكُ يَطَّلِعُ مِنْهَا أَوْ يَجْلِسُ فِيهَا الْجَالِسُ مُرْتَفِعًا مَعَ مُصَادَمَةِ ذَلِكَ لِلنُّصُوصِ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ لِمَنْ قَالَ بِذَلِكَ اطِّرَادُ الْحُرْمَةِ فِي الْجِدَارِ الْمُعَادِ فَلَا أَقَلَّ مِنَ التَّوَقُّفِ وَالْوَرَعِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَحَلِّ الْخَطِرِ.

الْعَاشِرُ: هَلْ يَظُنُّ ظَانٌّ أَوْ يَتَوَهَّمُ مُتَوَهِّمٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَصَّ الْمَنْعَ بِالْجِدَارِ بُخْلًا بِجِدَارِهِ أَوْ حِرْصًا عَلَيْهِ أَوْ خَشْيَةَ أَنْ يَضْعُفَ الْجِدَارُ؟ كَلَّا وَاللَّهِ بَلْ إِنَّمَا أَرَادَ بِذَلِكَ مَنْعَ الِاسْتِطْرَاقِ وَالِاطِّلَاعِ إِلَى مَسْجِدِهِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنِ الْجِدَارِ بِخُصُوصِهِ حَسْبَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ وَأَوْحَى إِلَيْهِ.

الْحَادِيَ عَشَرَ: هَلْ كَانَ الْمَنْعُ لعمر وَغَيْرِهِ مِنْ حَيْثُ الْجِدَارُ حَتَّى لَوْ فَتَحُوا مِنْ جِدَارِهِمْ حَيْثُ لَا جِدَارَ لِلْمَسْجِدِ لَجَازَ لَهُمْ ذَلِكَ؟ الْأَحَادِيثُ تَقْتَضِي خِلَافَهُ كَمَا مَنْ مَرَّ عَلَيْهَا.

الثَّانِيَ عَشَرَ: هَذَا الْمَنْعُ قَدْ أَسْنَدَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْوَحْيِ وَلَمْ يُبَيِّنْ عِلَّتَهُ، فَإِنْ أُدْرِكَ لَهُ عِلَّةٌ وَهُوَ تَعْظِيمُ الْمَسْجِدِ اسْتَمَرَّ ذَلِكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فِي كُلِّ جِدَارٍ، وَإِنْ لَمْ يُدْرَكْ عِلَّةٌ اسْتَمَرَّ أَيْضًا، فَإِنَّ التَّخْصِيصَ إِذَا لَمْ يُنَصَّ يَكُونُ عَنْ قِيَاسٍ وَمَا لَا تُدْرَكُ عِلَّتُهُ لَا يَدْخُلُهُ الْقِيَاسُ كَسَائِرِ الْأُمُورِ التَّوْقِيفِيَّةِ وَالتَّعَبُّدِيَّةِ، وَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: الْعِلَّةُ اخْتِصَاصُهُ بِالْجِدَارِ قُلْنَا: لَيْسَ هَذَا بِعِلَّةٍ، وَإِنْ قَالَ: الْعِلَّةُ خَوْفُ إِضْعَافِهِ، قُلْنَا: هِيَ عِلَّةٌ سَاقِطَةٌ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا

طور بواسطة نورين ميديا © 2015