يُغَيِّرَ مِنَ الْأُمُورِ الْمَنْصُوصَةِ فِي الشَّرِيعَةِ شَيْئًا بِرَأْيِهِ؟
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْحَدِيثُ الْوَارِدُ فِي ذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِزَمَنِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَى التَّخْصِيصِ وَإِنَّمَا يُصَارُ إِلَى تَخْصِيصِ النُّصُوصِ بِدَلِيلٍ.
ثَانِيهَا: أَنَّ الْقِصَّةَ أَمَرَ بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِ وَفَاتِهِ، وَلَمْ يَعِشْ بَعْدَهَا إِلَّا دُونَ عَشَرَةِ أَيَّامٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَمَرَ بِهِ شَرْعًا مُسْتَمِرًّا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
ثَالِثُهَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَخْصُوصًا بِزَمَنٍ لَوَجَبَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُبَيِّنَهُ وَإِلَّا لَكَانَ تَأْخِيرًا لِلْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ، لَا سِيَّمَا وَهِيَ آخِرُ جِلْسَةٍ جَلَسَهَا لِلنَّاسِ.
رَابِعُهَا: أَنَّ الصَّحَابَةَ اسْتَمَرُّوا إِلَى أَنِ انْقَرَضُوا وَهُمْ بَاقُونَ عَلَى هَذَا الْحُكْمِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ فَهِمُوهُ شَرْعًا مُؤَبَّدًا.
خَامِسُهَا: يُقَالُ لِهَذَا الَّذِي ادَّعَى التَّخْصِيصَ مَا وَجْهُ مَنْعِ الصَّحَابَةِ فِي زَمَنِهِ وَالْإِذْنِ لِمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ، وَالصَّحَابَةُ أَشْرَفُ وَأَجَلُّ وَأَحَقُّ بِكُلِّ خَيْرٍ؟ وَهَلْ يَتَخَيَّلُ مُتَخَيِّلٌ أَنْ يُرَخِّصَ لِأَهْلِ الْقَرْنِ الْأَرْذَلِ مَا مُنِعَ [مِنْهُ] أَشْرَفُ الْأُمَّةِ وَخِيَارُهُمْ؟! مَعَاذَ اللَّهِ؟!
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْمَنْعُ مَخْصُوصٌ بِجِدَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا هُدِمَ وَأُعِيدَ غَيْرُهُ، فَإِنَّ الْمُعَادَ مِلْكٌ لِلْمُعِيدِ فَيَفْتَحُ فِيهِ مَا شَاءَ وَلَا يَصِيرُ وَقْفًا حَتَّى يُوقِفَهُ، وَهَذَا الْكَلَامُ مَرْدُودٌ بِوُجُوهٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ سَبَبَ هَذَا الْقَوْلِ فُهِمَ أَنَّ الْحُكْمَ مُتَعَلِّقٌ بِالْجِدَارِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلِ الْحُكْمُ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَسْجِدِ، وَقَصْدُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا يُسْتَطْرَقَ إِلَى مَسْجِدِهِ مِنْ بَابٍ فِي دَارٍ تُلَاصِقُهُ، وَلَا يُطَّلَعُ إِلَيْهِ مِنْ كُوَّةٍ فِي دَارٍ تُلَاصِقُهُ، فَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ بَقِيَ الْجِدَارُ الَّذِي كَانَ فِي عَهْدِهِ أَوْ أُزِيلَ وَأُعِيدَ غَيْرُهُ فَإِنَّ الْمُعَادَ يَقُومُ مَقَامَ الْجِدَارِ الْأَوَّلِ فِي هَذَا الْحُكْمِ.
الثَّانِي: أَنَّ تَرْتِيبَ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ يُشْعِرُ بِالْعِلِيَّةِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ، وَقَدْ رَتَّبَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحُكْمَ هُنَا عَلَى الْوَصْفِ حَيْثُ قَالَ: «انْظُرُوا هَذِهِ الْأَبْوَابَ الشَّوَارِعَ فِي الْمَسْجِدِ فَسُدُّوهَا» ، وَفِي لَفْظٍ: " الشَّوَارِعَ إِلَى الْمَسْجِدِ " فَعَلَّقَ الْحُكْمَ بِالشَّوَارِعِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِي سَدِّهَا كَوْنُهَا شَارِعَةً إِلَى الْمَسْجِدِ أَيْ طَرِيقًا إِلَيْهِ مِنْ دَارٍ فَسَدَّ كُلَّ بَابٍ يَشْرَعُ إِلَى الْمَسْجِدِ مِنْ دَارٍ، سَوَاءٌ فُتِحَ فِي الْجِدَارِ النَّبَوِيِّ أَمْ فِي الْجِدَارِ الَّذِي أُعِيدَ مَكَانَهُ، أَمْ فِي جِدَارِ صَاحِبِ الدَّارِ.
الثَّالِثُ: أَنَّ الْجِدَارَ النَّبَوِيَّ أُزِيلَ فِي عَهْدِ عمر، وعثمان وَبُنِيَ غَيْرُهُ، وَأَبْقَى الصَّحَابَةُ هَذَا الْحُكْمَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ فَهِمُوا مِنَ الْأَمْرِ الشَّرِيفِ تَعَلُّقَ ذَلِكَ بِالْمَسْجِدِ لَا بِالْجِدَارِ، وَإِلَّا لَكَانُوا يَفْتَحُونَ لَهُمْ أَبْوَابًا وَكَوَّاتٍ وَيَحْتَجُّونَ بِأَنَّ الْجِدَارَ النَّبَوِيَّ أُزِيلَ، وَهَذَا الْجِدَارُ مِلْكُ عمر أَوْ عثمان وَحَاشَاهُمْ مِنْ ذَلِكَ وَهُمْ أَتْقَى لِلَّهِ وَأَوْرَعُ وَأَشَدُّ خَشْيَةً.
وَانْظُرْ إِلَى «قَوْلِ عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَوْلَا أَنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " يَنْبَغِي أَنْ