فِي الْقُرْآنِ. وَذَكَرَ كَلِمَةً لَا أَسْتَطِيعُ ذِكْرَهَا، فَرَجَعْتُ مِنْ عِنْدِهِ وَلَمْ أَجْتَمِعْ بِهِ إِلَى الْآنَ، وَأَلَّفْتُ مُؤَلَّفًا سَمَّيْتُهُ: مِفْتَاحَ الْجَنَّةِ فِي الِاعْتِصَامِ بِالسُّنَّةِ، وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ أَقْوَالِهِ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ: علي عِنْدَهُ الْعِلْمُ وَالشَّجَاعَةُ، وأبو بكر لَيْسَ عِنْدَهُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا زَوَّجَهُ بِابْنَتِهِ وَأَنْفَقَ عَلَيْهِ مَالَهُ فَكَافَأَهُ بِالْخِلَافَةِ بَعْدَهُ، فَقُلْتُ لَهُ: وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ بِأَنَّ أبا بكر أَعْلَمُ الصَّحَابَةِ وَأَشْجَعُهُمْ، فَقَالَ: هَذِهِ الْأَحَادِيثُ كَذِبٌ، ثُمَّ أَعَادَ الْآنَ الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ مَعَ خاير بك وَطَلَبَ مِنْهُ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ أبي بكر بِآيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرَى الْحَدِيثَ حُجَّةً، فَذَكَرَ لَهُ خاير بك هَذِهِ الْآيَةَ، وَلَمْ يَقُلْهَا مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ، بَلْ رَآهَا فِي بَعْضِ كُتُبِ الْكَلَامِ فَذَكَرَهَا، فَكَانَ لَا يَلِيقُ بالجوجري فِي مِثْلِ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ أَنْ يُفْتِيَ بِأَنَّ الْآيَةَ لَيْسَتْ خَاصَّةً بأبي بكر وَلَا دَالَّةً عَلَى أَفْضَلِيَّتِهِ، فَيُؤَيِّدَ مَقَالَةَ الرَّافِضِيِّ وَيُثَبِّتَهُ عَلَى مُعْتَقَدِهِ الْخَبِيثِ وَيَدْحَضَ حُجَّةً قَرَّرَهَا أَئِمَّةٌ كُلُّ فَرْدٍ مِنْهُمْ أَعْلَمُ بِالتَّفْسِيرِ وَالْكَلَامِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ مِنْ مِائَةِ أَلْفٍ مِنْ مِثْلِ الجوجري، وَاللَّهِ لَوْ كَانَ هَذَا الْقَوْلُ فِي الْآيَةِ هُوَ الْمَرْجُوحَ لَكَانَ اللَّائِقُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ أَنْ يُفْتِيَ بِهِ، فَكَيْفَ وَهُوَ الرَّاجِحُ وَالَّذِي أَفْتَى بِهِ الجوجري قَوْلٌ مَرْجُوحٌ؟ هَذِهِ الْوُجُوهُ الثَّلَاثَةُ الْجَدَلِيَّةُ.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الَّذِي يُرَدُّ بِهِ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ التَّحْقِيقِ، فَأَقُولُ: قَالَ الْبَغَوِيُّ فِي مَعَالِمِ التَّنْزِيلِ: يُرِيدُ بِالْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى، يَطْلُبُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ اللَّهِ زَكِيًّا لَا رِيَاءَ وَلَا سُمْعَةَ، يَعْنِي أَبَا بَكْرٍالصِّدِّيقَ فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ، وَقَالَ ابن الخازن فِي تَفْسِيرِهِ: الْأَتْقَى هُنَا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فِي قَوْلِ جَمِيعِ الْمُفَسِّرِينَ، وَقَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ الرازي فِي تَفْسِيرِهِ: أَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ هُنَا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَتْقَى أبو بكر، وَذَهَبَتِ الشِّيعَةُ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ علي، فَانْظُرْ إِلَى نَقْلِ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ إِجْمَاعَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَتْقَى أبو بكر لَا كُلُّ تَقِيٍّ، وَقَالَ الأصبهاني فِي تَفْسِيرِهِ: خُصَّ الصِّلِيُّ بِالْأَشْقَى وَالتَّجَنُّبُ بِالْأَتْقَى، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ كُلَّ شَقِيٍّ يَصْلَاهَا، وَكُلَّ تَقِيٍّ يُجَنَّبُهَا، لَا يَخْتَصُّ بِالصِّلِيِّ أَشْقَى الْأَشْقِيَاءِ، وَلَا بِالنَّجَاةِ أَتْقَى الْأَتْقِيَاءِ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ وَارِدَةٌ فِي الْمُوَازَنَةِ بَيْنَ حَالَتَيْ عَظِيمٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَعَظِيمٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَأُرِيدَ أَنْ يُبَالَغَ فِي صِفَتَيْهِمَا الْمُتَنَاقِضَتَيْنِ فَقِيلَ: الْأَشْقَى، وَجُعِلَ مُخْتَصًّا بِالصِّلِيِّ، كَأَنَّ النَّارَ لَمْ تُخْلَقْ إِلَّا لَهُ. وَقِيلَ: الْأَتْقَى، وَجُعِلَ مُخْتَصًّا بِالنَّجَاةِ، كَأَنَّ الْجَنَّةَ لَمْ تُخْلَقْ إِلَّا لَهُ. انْتَهَى.
وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَتْقَى أَتْقَى الْأَتْقِيَاءِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، لَا مُطْلَقُ التَّقِيِّ،