وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَتَكَرَّرَ جِنَايَتُهَا بَعْدَ غُرْمِ جَمِيعِ قِيمَتِهَا فِي الْجِنَايَةِ الْأَوْلَى، وَهُوَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ فَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ أَنَّهُ يُغَرَّمُ فِي الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ، وَكَذَلِكَ لَوْ جَنَتْ مِائَةَ جِنَايَةٍ بَعْدَ غُرْمِ مَا تَقَدَّمَهَا ضَمِنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُنَّ بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ، لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَا أَوْجَبَ الْغُرْمَ فِي الْجِنَايَةِ الْأَوْلَى مَوْجُودٌ فِيمَا بَعْدَهَا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْغُرْمُ كَالَّتِي قَبْلَهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْأَوَّلَ قَدْ مَلَكَ مَا أَخَذَهُ مِنَ الْأَرْشِ، وَالْجَانِي غَيْرُهُ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُؤْخَذَ بِأَرْشِ جِنَايَتِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ السَّيِّدَ لَا يَلْتَزِمُ غُرْمَ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ وَاحِدٍ، وَيَرْجِعُ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ، فَيَشْرَكُهُ فِيمَا أَخَذَهُ، وَيَرْجِعُ الثَّالِثُ عَلَى الْأَوَّلِ وَالثَّانِي: فَيَشْرَكُهُمَا، كَالشُّفْعَةِ إِذَا اسْتَحَقَّهَا ثَلَاثَةٌ، وَحَضَرَ أَحَدُهُمْ فَأَخَذَهَا ثُمَّ قَدِمَ ثَانٍ شَارَكَ الْأَوَّلَ فِيهَا، فَإِذَا قَدِمَ الثَّالِثُ شَارَكَ الْأَوَّلَ وَالثَّانِيَ، وَإِنَّمَا لَمْ يُغَرَّمِ السَّيِّدُ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةٍ وَاحِدَةٍ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ فِي حُكْمَ الْمُتْلِفِ، وَلَا يَلْزَمُ الْمُتْلِفَ أَكْثَرُ مِنْ قِيمَةِ مَا أَتْلَفَ.
وَالثَّانِي: أَنَّ تَسْلِيمَ قِيمَتِهَا كَتَسْلِيمِ بَدَنِهَا، وَهُوَ إِذَا سلمَ بَدَنُ عَبْدٍ قَدْ جَنَى ثُمَّ عَادَ فَجَنَى اشْتَرَكَ جَمِيعُهُمْ فِي بَدَنِهِ، كَذَلِكَ إِذَا سَلَّمَ الْقِيمَةَ ثُمَّ تَكَرَّرَتِ الْجِنَايَةُ اشْتَرَكَ جَمِيعُهُمْ فِي الْقِيمَةِ، فَإِنْ تَسَاوَتْ أُرُوشُ جِنَايَاتِهِمْ تَسَاوَوْا فِي الْقِيمَةِ، وَإِنْ تَفَاضَلَتْ تَفَاضَلُوا بِقَدْرِهَا فِي الْقِيمَةِ، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَرْجِعَ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ بِأَرْشِ جِنَايَتِهِ، وَيَرْجِعَ الثَّالِثُ عَلَى الْأَوَّلِ وَالثَّانِي، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا جَانِيًا كَمَا لَوْ حَفَرَ رَجُلٌ بِئْرًا فِي أَرْضٍ لَا يَمْلِكُهَا ثُمَّ مَاتَ فَسَقَطَتْ فِيهَا بَهِيمَةٌ ضَمِنَ قِيمَتَهَا فِي تَرِكَتِهِ، فَلَوِ اسْتَوْعَبَتِ الْقِيمَةُ جَمِيعَ تَرِكَتِهِ ثُمَّ سَقَطَتْ فِيهَا بَهِيمَةٌ ثَانِيَةٌ رَجَعَ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ، فَشَارَكَهُ فِي القيمة، فإن سقطت فيهما بَهِيمَةٌ ثَالِثَةٌ رَجَعَ الثَّالِثُ عَلَى الْأَول وَالثَّانِي فَشَارَكَهُمَا فِي الْقِيمَةِ، وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْهُمَا جَانِيًا، وَبِهَذَا يَفْسُدُ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْمُزَنِيُّ وَاللَّهُ أعلم.
مسألة
قال الشافعي رضي الله عنه: (فَإِنْ أَسْلَمَتْ أُمُّ وَلَدِ النَّصْرَانِيِّ حِيلَ بَيْنَهُمَا وَأُخِذَ بِنَفَقَتِهَا وَتَعْمَلُ مَا يُعْمَلُ لَهُ مِثْلُهَا فَإِنْ أَسْلَمَ خُلِّيَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ وَإِنْ مَاتَ عَتَقَتْ) .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا أَوْلَدَ النَّصْرَانِيُّ أَمَتَهُ النَّصْرَانِيَّةَ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ بَيْعُهَا، وَحُكْمُهَا حُكْمُ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ فَإِنْ أَسْلَمَتْ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى أَنَّهَا تَكُونُ فِي حُكْمِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ لَا يُحْدِثُ لَهَا الْإِسْلَامُ عِتْقًا وَلَا اسْتِسْعَاءً.