حَالُ شُهُودِ الْفَرْعِ امْتَنَعَ أَنْ يَثْبُتَ بِهِمْ حُكْمُ شُهُودِ الْأَصْلِ.
وَدَلِيلُنَا أَنَّ الْقَاضِيَ وَإِنْ كَانَ فَرْعًا لِمَنْ شَهِدَ عِنْدَهُ فَهُوَ أَصْلٌ لِمَنْ أَشْهَدَه عَلَى نَفْسِهِ وَتَغَيُّرُ حَالِ الْأَصْلِ لَا يَمْنَعُ مِنْ ثُبُوتِ الْحُكْمِ بِالْفَرْعِ كَالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ، لَا يَمْنَعُ تَغَيُّرُ حَالِ شُهُودِ الْأَصْلِ مِنْ ثُبُوتِ حُكْمِهِمْ شُهُودَ الْفَرْعِ.
فَصَارَ عِلَّةُ الِاخْتِلَافِ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ أَجْرَى عَلَيْهِ حُكْمَ الْفَرْعِ اعْتِبَارًا بِمَنْ شَهِدَ عِنْدَهُ وَالشَّافِعِيُّ أَجْرَى عَلَيْهِ حُكْمَ الْأَصْلِ اعْتِبَارًا بِمَنْ أَشْهَدَهُ عَلَى نَفْسِهِ.
وَاعْتِبَارُهُ بِالْأَصْلِ أَوْلَى مِنِ اعْتِبَارِهِ بِالْفَرْعِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ فَرْعًا لِأَصْلٍ، وَأَصْلًا لِفَرْعٍ، كَانَ اعْتِبَارُ حُكْمِ الْحَالِ أَوْلَى مِنِ اعتبار حكم قد زال.
وَإِنْ تَغَيَّرَتْ حَالُ الْكَاتِبِ بِفِسْقٍ أَوْ جُنُونٍ فَالْحُكْمُ فِيهِمَا وَاحِدٌ.
فَلَيْسَ يَخْلُو حَالُ الْكِتَابِ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِحُكْمٍ أَوْ شَهَادَةٍ.
فَإِنْ كَانَ الْكِتَابُ بِحُكْمٍ قَدْ أَمْضَاهُ فِي حَالِ سَلَامَتِهِ، وَجَبَ قَبُولُ كِتَابِهِ بَعْدَ تَغَيُّرِ حَالِهِ؛ لِأَنَّ مَا نَفَذَ مِنَ الْأَحْكَامِ فِي حَالِ الْجَوَازِ لَمْ يَتَعَقَّبْهُ فَسَادٌ.
وَإِنْ كَانَ الْكِتَابُ بِشَهَادَةٍ قَدْ ثَبَتَتْ عِنْدَهُ نُظِرَ: فَإِنْ تَغَيَّرَتْ حَالُهُ بَعْدَ قَبُولِ كِتَابِهِ ثَبَتَ حُكْمُهُ، وَإِنْ تَغَيَّرَتْ قَبْلَ قَبُولِهِ، سَقَطَ حُكْمُهُ، كَالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ إِذَا فَسَقَ فِيهَا شُهُودُ الْأَصْلِ بَعْدَ قَبُولِ شُهُودِ الْفَرْعِ صَحَّتِ الشَّهَادَةُ وَلَوْ فَسَقُوا قَبْلَ قَبُولِ شُهُودِ الْفَرْعِ سَقَطَتِ الشَّهَادَةُ.
فَأَمَّا إِذَا تَغَيَّرَتْ حَالُ الْقَاضِي الْمُكَاتِبِ بِمَوْتٍ أَوْ عَزْلٍ أَوْ جُنُونٍ أَوْ فِسْقٍ سَقَطَ أَنْ يَكُونَ قَابِلًا وَحَاكِمًا بِهِ.
فَإِنْ تَقَلَّدَ مَكَانَهُ غَيْرُهُ مِنَ الْقُضَاةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا: هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَقُومَ فِي قَبُولِ الْكِتَابِ مَقَامَ الْأَوَّلِ الْمَعْزُولِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ قَبُولُ كِتَابٍ إِلَى غَيْرِهِ كَالشَّهَادَةِ عِنْدَ الْمَعْزُولِ، وَلَا يَحْكُمُ بِهَا الْمَوْلَى بَعْدَهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ الْبَغْدَادِيِّينَ يَجُوزُ لَهُ قَبُولُ كِتَابِهِ إِلَى الْمَعْزُولِ لِأَنَّ الْمَعْمُولَ مِنَ الْكِتَابِ بِمَا يُؤَدِّيهِ شُهُودُهُ مِنْ حُكْمِ الْأَوَّلِ بِمَضْمُونِهِ، فَكَانَ ثُبُوتُ الشَّهَادَةِ بِهِ عِنْدَ الثَّانِي كَثُبُوتِهَا بِهِ عِنْدَ الْأَوَّلِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِيهِ.
وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ قَاضِيًا بِالْكُوفَةِ كَتَبَ إِلَى إِيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَهُوَ قَاضِي الْبَصْرَةِ كتَابًا بِحُكْمٍ فَوَصَلَ بَعْدَ عَزْلِ إِيَاسٍ وَوُلَايَةِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ فَقَبِلَهُ الْحَسَنُ وَحَكَمَ بِهِ.