والثالثة: أَنْ يَحْلِفَ أَنْ يَضْرِبَهُ مِائَةَ ضَرْبَةٍ.
فَأَمَّا الْحَالُ الْأُولَى: إِذَا حَلَفَ أَنْ يَضْرِبَ مِائَةَ مَرَّةٍ، فَعَلَيْهِ فِي الْبِرِّ أَنْ يُفَرِّقَهَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْمَعَهَا، فَإِنْ جَمَعَهَا وَضَرَبَهُ بِهَا كَانَتْ مَرَّةً وَاحِدَةً، كَمَا لَوْ رَمَى الْجَمْرَةَ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ دُفْعَةً وَاحِدَةً اعْتَدَّهَا بِحَصَاةٍ وَاحِدَةٍ، حَتَّى رَمَى بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ فِي سَبْعِ مَرَّاتٍ، وهذا متفق عليه.
وأما الحالة الثَّانِيَةُ: إِذَا حَلَفَ أَنْ يَضْرِبَهُ مِائَةَ سَوْطٍ، فَيَجُوزُ أَنْ يُفَرِّقَهَا وَيَجُوزُ أَنْ يَجْمَعَهَا وَيَضْرِبَهُ بِمِائَةِ سَوْطٍ دُفْعَةً وَاحِدَةً، وَيَكُونَ بَارًّا، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَقَالَ مَالِكٌ: عَلَيْهِ أَنْ يُفَرِّقَهَا وَلَا يَبِرَّ إِنْ جَمَعَهَا، كَمَا لَوْ حَلَفَ أَنْ يَضْرِبَهُ مِائَةَ مَرَّةٍ.
وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلاَ تَحْنَثْ) {ص: 44) وَذَلِكَ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ تَعَالَى أَيُّوبَ حَلَفَ أَنْ يَضْرِبَ امْرَأَتَهُ عَدَدًا سَمَّاهُ، فَأَفْتَاهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَجْمَعَ ذَلِكَ العدد، فيضرها بِهِ دُفْعَةً وَاحِدَةً؛ لِيَبِرَّ فِي يَمِينِهِ.
وَأَمَّرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي مقعدٍ زَنَا أَنْ يُضْرَبَ بِإِثْكَالِ النَّخْلِ دُفْعَةً وَاحِدَةً.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ: مِائَةَ مَرَّةٍ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْمَعَهَا، وَبَيْنَ أَنْ يَقُولَ: مِائَةَ سَوْطٍ، فَيَجُوزُ أَنْ يَجْمَعَهَا أَنَّهُ جَعَلَ الْمَعْدُودَ فِي مِائَةِ مَرَّةٍ الْفِعْلَ، وَفِي مِائَةِ سَوْطٍ الْأَسْوَاطَ.
وَأَمَّا الْحَالُ الثَّالِثَةُ: إِذَا حَلَفَ أَنْ يَضْرِبَهُ مِائَةَ ضَرْبَةٍ، فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: إنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُفَرِّقَهَا، وَلَا يَبِرَّ إِنْ جَمَعَهَا، كَمَا لَوْ حَلَفَ لَيَضْرِبَهُ مِائَةَ مَرَّةٍ، وَيَكُونُ الْعَدَدُ رَاجِعًا إِلَى الْفِعْلِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ ذَلِكَ وَيَبِرُّ بِهِ كَمَا لَوْ حَلَفَ أَنْ يَضْرِبَهُ مِائَةَ سَوْطٍ، وَيَكُونُ الْعَدَدُ رَاجِعًا إِلَى الْآلَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي فِي وُصُولِ جَمِيعِهَا إِلَى بَدَنِهِ، فَمُعْتَبَرٌ بِلَفْظِهِ، فَإِنْ قَالَ: أَضْرِبُكَ بِمِائَةِ سَوْطٍ جَازَ، إِذَا جَمَعَهَا وَضَرَبَهُ بِهَا أَنْ لَا يَصِلَ جَمِيعُهَا إِلَى بَدَنِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ ضَارِبًا لَهُ بِمِائَةِ سَوْطٍ؛ لِأَنَّ دُخُولَ الْبَاءِ عَلَى الْعَدَدِ تَجْعَلُهُ صِفَةً لِآلَةِ الضَّرْبِ، وَلَا تَجْعَلُهُ صِفَةً لِعَدَدِ الضَّرْبِ.
وَإِنْ قَالَ: أَضْرِبُكَ مِائَةَ سَوْطٍ، وَحَذَفَ الْبَاءَ مِنَ الْعَدَدِ لَبَرَّ بِإِيصَالِ جَمِيعِهَا إِلَى بَدَنِهِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَهُ صِفَةً لِعَدَدِ الضَّرْبِ دُونَ الْآلَةِ.
وَإِذَا كَانَ مِنْ شَرْطِ الْبِرِّ وَصُولُ جَمِيعِهَا إِلَى بَدَنِهِ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ فِي جَمْعِهَا وَضَرْبِهِ بِهَا دُفْعَةً مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: