فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْعِلْمَ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي صِحَّةِ الْإِذْنِ، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَلَوْ أَذِنَ لَهَا وَأَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ لَمْ يَحْنَثْ، وَلَيْسَ إِشْهَادُهُ عَلَى الْإِذْنِ شَرْطًا فِيهِ، وَإِنَّمَا هِيَ حُجَّةٌ لَهُ إِنِ ادَّعَاهُ؛ لِيَرْفَعَ بِهِ الطَّلَاقَ إِذَا أَنْكَرَتْهُ الزَّوْجَةُ، لِيَقَعَ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ.
وَإِنَّمَا الشَّرْطُ فِي صِحَّةِ الْإِذْنِ أَنْ يَكُونَ مَسْمُوعًا مِنْهُ، فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ لِمُسْتَمِعٍ لَمْ يَصِحَّ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ مِنْ حَدِيثِ النَّفْسِ الَّذِي لَا يَصِحُّ بِهِ الْإِذْنُ.
ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " وَأُحِبُّ لَهُ فِي الْوَرَعِ أَنْ يُحَنِّثَ نَفْسَهُ "، وَإِنَّمَا اخْتَارَ لَهُ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ مَخْرَجٌ مُخْتَلِفٌ فِي استباحته، فاختار له أن تكون الاستباحة ومتفقاً عليها، وأمره بالتزام الحنث، ولم يرد بِالْتِزَامِ الْحِنْثِ الْتِزَامَ الطَّلَاقِ، لِأَنَّهُ إِنِ الْتَزَمَ الطَّلَاقَ لَمْ تَصِرْ زَوْجَتُهُ مُسْتَبِيحَةَ الْأَزْوَاجِ بِاتِّفَاقٍ، وَإِنَّمَا آمَرَهُ بِمَا تَكُونُ الِاسْتِبَاحَةُ فِي الْجِهَتَيْنِ بِاتِّفَاقٍ يَقَعُ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ أَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا أَوْ ثَلَاثًا. فَإِنْ كَانَ رَجْعِيًّا، فَيُخْتَارُ لَهُ فِي الْوَرَعِ إِنْ أَرَادَ الْمَقَامَ مَعَهَا أَنْ يَرْتَجِعَهَا، لِأَنَّ الطَّلَاقَ إِنْ وَقَعَ اسْتَبَاحَهَا بِالرَّجْعَةِ، وَإِنْ لَمْ يَقَعْ لَمْ تَضُرَّهُ الرَّجْعَةُ.
وَإِنْ لَمْ يُرِدِ الْمَقَامَ مَعَهَا قَالَ لَهَا: إِنْ لَمْ يَكُنِ الطَّلَاقُ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً، حَتَّى لَا يَلْزَمَهُ أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدَةٍ فِي الْحَالَيْنِ.
فَإِنْ لَمْ يَقُلْ هَكَذَا، وَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ، وَاحِدَةً لَزِمَتْهُ الْوَاحِدَةُ، وَكَانَتِ الثَّانِيَةُ عَلَى اخْتِلَافٍ. وَإِنْ لَمْ يَقُلْ أَحَدَ هَذَيْنِ كَانَ النِّكَاحُ لَازِمًا، وَهِيَ مَمْنُوعَةٌ مِنَ الْأَزْوَاجِ، وَيُؤْخَذُ بِنَفَقَتِهَا وَالْوَرَعُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ إِصَابَتِهَا.
وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ ثَلَاثًا، فَلَيْسَ مِنَ الْوَرَعِ الْإِقَامَةُ عَلَيْهَا، وَالْوَرَعُ أَنْ يُفَارِقَهَا بِأَنْ يَقُولَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا.
وَلَيْسَ يَحْتَاجُ أَنْ يَقُولَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِنْ لَمْ يَكُنِ الطَّلَاقُ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكِ، لِأَنَّ طَلَاقَ الْحِنْثِ إِنْ وَقَعَ لَمْ يَقَعْ طَلَاقُ الْمُبَاشَرَةِ، وَخَالَفَ طَلَاقَ الرَّجْعَةِ، لِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَقَعْ طَلَاقُ الْحِنْثِ وَقَعَ طَلَاقُ الْمُبَاشَرَةِ.
فَإِنْ لَمْ يَقُلْ هَذَا فِي الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ، كَانَ مُلْتَزِمًا لِنِكَاحِهَا، وَهِيَ مَمْنُوعَةٌ مِنَ الْأَزْوَاجِ، وَيُؤْخَذُ بِنَفَقَتِهَا، وَالْوَرَعُ لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ إِصَابَتِهَا، فَإِنْ لَمْ يَمْتَنِعْ، وَأَصَابَهَا فِي الطَّلَّاقَيْنِ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ، وَلَا مَأْثَمَ، لِمَا حُكِمَ بِهِ مِنْ بِرِّهِ فِي يمينه.