ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ وَعَطَاءٍ، وَأَكْثَرِ التَّابِعِينَ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لاَ يُؤَاخِذُكُمْ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذْكُمْ بَمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) {البقرة: 225) فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا لَمْ يَقْصِدْهُ بِقَلْبِهِ لَمْ يُؤَاخَذْ بِهِ وَقَالَ: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَدْتُمْ الأَيْمَانَ) {المائدة: 89) فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا لَمْ يَعْقِدْهُ بِعَزْمِهِ لَمْ يُؤَاخَذْ بِهِ، وَلِمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ عَائِشَةَ فِي صَدْرِ الْبَابِ، وَقَدْ رَوَاهُ حَسَّانُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ فِي لَغْوِ الْيَمِينِ: " هُوَ كَلَامُ الْعَرَبِ، لَا وَاللَّهِ، وَبَلَى وَاللَّهِ ".
وَرَوَى طَاوُسٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يَمِينَ فِي غضبٍ " فَأَسْقَطَ الْيَمِينَ فِي الْغَضَبِ لِسَبْقِ اللِّسَانِ بِهَا وَعَدَمِ الْقَصْدِ لَهَا؛ وَلِأَنَّ لَغْوَ الْكَلَامِ عِنْدَ الْعَرَبِ مَا تَجَرَّدَ عَنْ غَرَضٍ، وَعَرِيَ عَنْ قَصْدٍ وَكَانَ مِنَ الْبَوَادِرِ وَالْمُلْغَاةِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ) {القصص: 55) فَكَانَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ تَقْتَضِيهِ اللُّغَةُ فِيهِ مَعَ ما قارنه من محايل الشَّرْعِ.
فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ لغو اليمين لم تخل اليمين مع أَنْ تَكُونَ بِاللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِغَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَتْ بِاللَّهِ تَعَالَى سَبَقَ بِهَا لِسَانُهُ وَجَرَتْ بِهَا عَادَتُهُ، فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ، أَوْ قَالَ: بَلَى وَاللَّهِ غَيْرَ قَاصِدٍ لِعَقْدِ يَمِينٍ فَلَا مَأْثَمَ عَلَيْهِ وَلَا حِنْثَ، وَلَوْ نَزَّهَ لِسَانَهُ مِنْهَا كَانَ أَوْلَى، لِئَلَّا يَجْعَلَ اسْمَ اللَّهِ تعالى عرضةً ليمينه، وقد قال تَعَالَى: {وَلاَ تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ) {البقرة: 224) فَأَمَّا إِنْ قَالَ: لَا وَاللَّهِ، بَلَى وَاللَّهِ، فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا، كَانَ الْأَوَّلُ لَغْوًا؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَقْصُودَةٍ وَكَانَتِ الثَّانِيَةُ مُنْعَقِدَةً، لِأَنَّهَا اسْتِدْرَاكٌ فَصَارَتْ مَقْصُودَةً، فَإِنْ كَانَتِ الْيَمِينُ بِغَيْرِ اللَّهِ مِنْ طَلَاقٍ وَعَتَاقٍ سَبَقَ بِهَا لِسَانُهُ لَغْوًا مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، وَلَا عقدٍ دِينٍ فِيهَا فَلَمْ يُؤَاخَذْ بِهَا فِي الْبَاطِنِ، وَكَانَ مُؤَاخَذًا بِهَا فِي الظَّاهِرِ، بِخِلَافِ الْيَمِينِ بِاللَّهِ فِي أَنَّهُ لَا يُؤَاخَذُ بِلَغْوِهَا فِي الظَّاهِرِ وَلَا فِي الْبَاطِنِ؟ لِأَنَّ كَفَّارَةَ الْحِنْثِ بِاللَّهِ مِنْ حُقُوقِهِ الْمَحْضَةِ، فَاسْتَوَى فِيهَا حُكْمُ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ وَالْحِنْثُ فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْحُقُوقِ الْمُشْتَرِكَةِ بَيْنَ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، فَلَمْ يُؤَاخَذْ بِهَا فِي الْبَاطِنِ لِاخْتِصَاصِهِ بِحُقُوقِ اللَّهِ، وَكَانَ مُؤَاخَذًا بها في الظاهر لاختصاصه بِحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.