وَالثَّانِيَةُ: مَا عَلَّلَ بِهِ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ إِنَّهَا مَا كَانَتْ جَارِيَةً فِي عُرْفِ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ، وَالشَّهَادَةُ بِمَا لَا تَعْرِفُهَا الْعَامَّةُ فِي الْأَيْمَانِ فَزَالَ عَنْهَا حُكْمُ الْيَمِينِ.
فَأَمَّا اسْتِدْلَالُ أَبِي حَنِيفَةَ بِعُرْفِ الشَّرْعِ، فَقَدْ قَابَلَهُ فِي حَمْلِهِ عَلَى شَهَادَةِ الْأَيْمَانِ بِاللَّهِ عُرْفٌ شَرْعِيٌّ، فَلَمْ يَكُنْ أَحَدُ الْعُرْفَيْنِ أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ، فَتَعَارَضَا، وَرَجَعَ إِلَى إِرَادَتِهِ، وَلَا يَخْلُو حَالُهُ فِي قَوْلِهِ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ:
أحدهما: أَنْ يُرِيدَ بِهَا غَيْرَ يَمِينٍ، فَلَا تَكُونُ يَمِينًا، وَهُوَ الَّذِي خَالَفَ فِيهِ أَبُو حَنِيفَةَ.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُرِيدَ بِهَا الْيَمِينَ، فَتَكُونُ يَمِينًا بِوِفَاقِ أَبِي حَنِيفَةَ، لِمَا وَافَقَهَا مِنْ أَحَدِ الْعُرْفَيْنِ.
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُطْلِقَ وَلَا تَكُونُ لَهُ فِيهَا نِيَّةٌ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي هَذَا الْإِطْلَاقِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّ إِطْلَاقَهَا يُوجِبُ أَنْ تَكُونَ يَمِينًا لِمُوَافَقَةِ الْعُرْفِ الشَّرْعِيِّ، وَيَكُونُ جَوَابُ الشَّافِعِيِّ فِي أَنَّهَا لَيْسَتْ بِيَمِينٍ مَحْمُولًا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهَا الْيَمِينَ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّ إِطْلَاقَهَا يَمْنَعُ مِنْ أَنْ تَكُونَ يَمِينًا لِمُخَالَفَةِ عُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ، وَيَكُونُ جَوَابُ الشَّافِعِيِّ فِي أَنَّهَا لَيْسَتْ بِيَمِينٍ مَحْمُولًا على هذا الإطلاق.
قال الشافعي: " وَلَوْ قَالَ أَعْزِمُ بِاللَّهِ وَلَا نِيَّةَ لَهُ لَمْ يَكُنْ يَمِينًا لِأَنَّ مَعْنَاهَا أَعْزِمُ بِقُدْرَةِ اللَّهِ أَوْ بِعَوْنِ اللَّهِ عَلَى كَذَا وَإِنْ أَرَادَ يَمِينًا فَهِيَ يمينٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَعْزِمُ بِاللَّهِ يَحْتَمِلُ الِاسْتِعَانَةَ بُقُولِهِ، وَمَعُونَتِهِ عَلَى مَقَاصِدِهِ تَسْلِيمًا لِأَمْرِهِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَإِنِ احْتَمَلَ أَنْ يُرِيدَ عَزْمًا عَلَى الْيَمِينِ بِإِضْمَارِ الْقَسَمِ، وَلِتَرَدُّدِهَا بَيْنَ احْتِمَالَيْنِ، أَظْهَرُهُمَا أَنْ تَكُونَ غَيْرَ يَمِينٍ، وَأَضْعَفُهُمَا أَنْ تَكُونَ يَمِينًا، لَمْ يَجْعَلْهَا يَمِينًا إِذَا نَوَى غَيْرَ الْيَمِينِ، وَلَا إِذَا أَطْلَقَهَا، لِأَنَّهُ لَمْ يَقْتَرِنْ بِإِطْلَاقِهَا عُرْفُ الشَّرْعِ وَلَا عُرْفُ الِاسْتِعْمَالِ، وَجَعَلْنَاهَا يَمِينًا إِذَا نَوَاهَا لِمَا يَحْتَمِلُهَا مِنْ حُكْمِ الْيَمِينِ فَتَصِيرُ يَمِينًا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَغَيْرَ يَمِينٍ فِي حَالَتَيْنِ وَجْهًا وَاحِدًا، بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ حَيْثُ احْتَمَلَتْ فِي الْإِطْلَاقِ، وَلِمَا اقْتَرَنَ بها من عرف الشرع.
(مسألة:)
قال الشافعي: " وَلَوْ قَالَ أَسْأَلُكَ بِاللَّهِ أَوْ أَعْزِمُ عَلَيْكَ بالله لتفعلن فإن أراد المستخلف بِهَا يَمِينًا فَهِيَ يمينٌ وَإِنْ لَمْ يُرِدْ بِهَا شَيْئًا فَلَيْسَتْ بيمينٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا قَوْلُهُ لِغَيْرِهِ: أَسْأَلُكُ بِاللَّهِ، أَوْ أُقْسِمُ عَلَيْكَ بِاللَّهِ لَتَفْعَلَنَّ كَذَا. فَلَهُ فِيهِ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ: