ذَلِكَ إِلَّا بِالْإِرَادَةِ وَالنِّيَّةِ، كَمَا أَنَّ الْعَرِبِيَّ إِذَا حَلَفَ بِالْأَعْجَمِيَّةِ تَكُونُ يَمِينًا إِذْ عَرَفَهَا، وَلَا تَكُونُ يَمِينًا إِنْ لَمْ يَعْرِفْهَا، وَكَذَا الْأَعْجَمِيُّ إِذَا حَلَفَ بِالْعَرَبِيَّةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ إنها تَكُونُ يَمِينًا فِي التَّغْلِيظِ عَلَيْهِ، وَلَا تَكُونُ يَمِينًا فِي التَّخْفِيفِ عَنْهُ، فَلَا يَجْعَلُهَا يَمِينًا فِي الْقَسَامَةِ؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ بِهَا لِنَفْسِهِ حَقًّا، وَيَجْعَلُهَا يَمِينًا فِي الْإِيلَاءِ؟ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ بِهَا على نفسه حقاً.
قال الشافعي (قال المزني) : رَحِمَهُ اللَّهُ: فَإِنْ قَالَ اللَّهُ لَأَفْعَلَنَّ فَهَذَا ابْتِدَاءُ كلامٍ لَا يمينٌ إِلَّا أَنْ يَنْوِيَ بِهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا حَذَفَ مِنَ اسْمِ اللَّهِ حَرْفَ الْقَسَمِ، فَقَالَ: اللَّهُ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا، لَمْ يَكُنْ يَمِينًا، لِأَنَّهُ يَحْذِفُ حُرُوفَ الْقَسَمِ الْمَوْضُوعَةَ لِلْيَمِينِ يَصِيرُ ابْتِدَاءَ كَلَامٍ، وَاسْتِفْتَاحَ خِطَابٍ يَخْرُجُ عَنْ عُرْفِ الْأَيْمَانِ فِي الِاسْتِعْمَالِ وَالشَّرْعِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ وَرَدَ بِهِ عُرْفُ الشَّرْعِ، فَقَدْ أَحْلَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رُكَانَةَ بْنِ عَبْدِ يَزِيدَ حِينَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ الْبَتَّةَ، وَذَكَرَ أَنَّهُ أَرَادَ وَاحِدَةً فَقَالَ: " اللَّهِ إِنَّكَ أَرَدْتَ وَاحِدَةً "؟ فَقَالَ: اللَّهِ إِنِّي أَرَدْتُ وَاحِدَةً، وَأَحْلَفَ ابْنَ مَسْعُودٍ حِينَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ قَتَلَ أَبَا جهلٍ، فَقَالَ: " اللَّهِ إِنَّكَ قَتَلْتَهُ "، فقال: الله إِنِّي قَتَلْتُهُ.
فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَصَدَ الْيَمِينَ، بِإِحْلَافِهِمَا وَالنِّيَّةُ عِنْدَنَا فِي الْأَيْمَانِ نِيَّةُ الْمُسْتَحْلِفِ دُونَ الْحَالِفِ، وَلَوْ كَانَ الْحَالِفُ نَوَى الْيَمِينَ، وَأَرَادَهَا مَعَ حَذْفِ حَرْفِ الْقَسَمِ كَانَتْ يَمِينًا لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ إِحْلَافِ رُكَانَةَ وَابْنِ مَسْعُودٍ، فَتَصِيرُ غَيْرَ يَمِينٍ فِي حَالَتَيْنِ إِذَا لَمْ يُرِدْ وَإِذَا أَطْلَقَ، وَيَمِينًا فِي حالة واحدة إذا أراد.
(مسألة:)
قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنْ قَالَ أَشْهَدُ بِاللَّهِ فَإِنْ نَوَى الْيَمِينَ فَهِيَ يمينٌ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ يَمِينًا فَلَيْسَتْ بيمينٍ لِأَنَّهَا تَحْتَمِلُ أَشْهَدُ بِأَمْرِ اللَّهِ وَلَوْ قَالَ أَشْهَدُ يَنْوِيهِ يَمِينًا لَمْ يَكُنْ يَمِينًا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ: وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إِذَا قَالَ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ، أَوْ قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّهَا يَمِينٌ لِمَا اقْتَرَنَ بِهَا مِنْ عُرْفِ الشَّرْعِ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللهِ) {النور: 6) وَقَالَ: {إِذَا جَاءَكَ المُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) {المنافقون: 1) وَإِذَا اقْتَرَنَ بِهَا أَحَدُ الْعُرْفَيْنِ صَارَتْ يَمِينًا، وَلَا تَكُونُ الشَّهَادَةُ بِاللَّهِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَمِينًا قَاطِعَةً، لِعِلَّتَيْنِ:
إِحْدَاهُمَا: مَا عَلَّلَ بِهِ الشَّافِعِيُّ إِنَّهَا تَحْتَمِلُ أَشْهَدُ بِأَمْرِ اللَّهِ عَلَى وَجْهِ الشَّهَادَةِ بِالْأَيْمَانِ بِاللَّهِ، فَخَرَجَتْ عَنْ حُكْمِ مَا لَا يَحْتَمِلُ.