بِمَا عَقَّدْتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ) {المائدة: 89) الْآيَةَ فَاقْتَضَى ظَاهِرُ الْعُمُومِ اسْتِوَاءَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ فِي وُجُوبِهِ.
وَمِنَ الْقِيَاسِ: أَنَّ كُلَّ مَنْ صَحَّتْ يَمِينُهُ فِي الدَّعَاوَى انْعَقَدَتْ مِنْ غَيْرِ الدَّعَاوَى كَالْمُسْلِمِ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ يَمِينٍ صَحَّتْ مِنَ الْمُسْلِمِ صَحَّتْ مِنَ الْكَافِرِ كَالْيَمِينِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ صَحَّتْ يَمِينُهُ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ صَحَّتْ يَمِينُهُ بِاللَّهِ كَالْمُسْلِمِ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ صَحَّتْ يَمِينُهُ بِاللَّهِ فِي الْإِيلَاءِ صَحَّتْ يَمِينُهُ بِاللَّهِ فِي غَيْرِ الْإِيلَاءِ كَالْمُسْلِمِ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا صَحَّتْ يَمِينُهُ فِي الْإِيلَاءِ وَبِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ؛ لِأَنَّهُ يَصِحُّ مِنْهُ مُوجِبُهُ مِنَ الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ، وَلَمْ يَصِحَّ مِنْهُ مُوجِبُ الْيَمِينِ بِاللَّهِ تَعَالَى فِي التَّكْفِيرِ، فَلَمْ تَصِحَّ مِنْهُ الْيَمِينُ بِاللَّهِ تَعَالَى.
قِيلَ: مُوجِبُ الْيَمِينِ هُوَ الْوَفَاءُ بِهَا، وَالْكَفَّارَةُ حُكْمٌ تَعَلَّقَ بِالْحِنْثِ، فَلَمْ يَمْنَعْ مِنَ انْعِقَادِ الْيَمِينِ، وَإِنْ أَفْضَتْ إِلَى التَّكْفِيرِ الَّذِي لَا يَصِحُّ مِنْهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْكَافِرَ لَوْ دَخَلَ الْحَرَمَ فَقَتَلَ فِيهِ صَيْدًا ضَمِنَهُ بِالْجَزَاءِ، وَإِنِ افْتَقَرَ إِخْرَاجُ الْجَزَاءِ إِلَى نِيَّةٍ لَمْ يَصِحَّ مِنَ الْكَافِرِ، وَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْجَزَاءُ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ " فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْخَبَرَ يَقْتَضِي إِسْقَاطَ مَا وَجَبَ، وَعِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَمْ يَجِبْ مَا يَسْقُطُ.
وَالثَّانِي: إِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى سُقُوطِ الْمَأْثَمِ دُونَ الْمَغْرَمِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ التَّكْفِيرَ بِالْمَالِ لَا يَصِحُّ مِنْهُ كَالصِّيَامِ، فَهُوَ أَنَّ الصِّيَامَ عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ فَلَمْ تَصِحَّ مِنَ الْكَافِرِ كَالصَّلَاةِ وَالْمَالُ حق يتصرف إِلَى الْآدَمِيِّينَ، فَصَحَّ مِنَ الْكَافِرِ، وَإِنِ اسْتُحِقَّتْ فِيهِ النِّيَّةُ كَجَزَاءِ الصَّيْدِ فِي الْحَرَمِ، وَلَا يَمْنَعُ إِذَا لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ أَحَدُ أَنْوَاعِ التَّكْفِيرِ أَنْ تَجِبَ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْحَائِضَ لَا يَصِحُّ مِنْهَا التَّكْفِيرُ بِالصِّيَامِ، وتصح مِنْهَا التَّكْفِيرُ بِالْمَالِ، وَالْعَبْدُ لَا يَصِحُّ مِنْهُ التَّكْفِيرُ بِالْمَالِ، وَيَصِحُّ مِنْهُ التَّكْفِيرُ بِالصِّيَامِ، وَالْمَجْنُونُ إِنَّمَا لَا يَصِحُّ مِنْهُ التَّكْفِيرُ بِالْمَالِ وَالصِّيَامِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ، وَالْكَافِرُ مُكَلَّفٌ، فَلِذَلِكَ انْعَقَدَتْ يمين الكافر، وإن لم تنعقد يَمِينُ الْمَجْنُونِ.
وَأَمَّا الزَّكَاةُ: فَلِأَنَّهَا فُرِضَتْ عَلَى الْمُسْلِمِ طُهْرَةً، فَخَرَجَ مِنْهَا الْكَافِرُ، وَلَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ عقوبة.
قال الشافعي: " وَإِنْ قَالَ أَقْسَمْتُ بِاللَّهِ فَإِنْ كَانَ يَعْنِي حَلَفْتُ قَدِيمًا فَلَيْسَتْ بيمينٍ حادثةٍ وَإِنْ أَرَادَ بِهَا يَمِينًا فَهِيَ يمينٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَوْلُهُ: " أَقْسَمْتُ بِاللَّهِ " يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ أَنْ يَكُونَ يَمِينًا فِي الْحَالِ أَوْ