الزُّهْرِيِّ عَنْ حَرَامِ بْنِ مُحَيِّصَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ أَجْرِ الْحَجَّامِ فَنَهَاهُ عَنْهُ، فَشَكَا مِنْ حَاجَتِهِمْ فَقَالَ: " اعْلِفْهُ نَاضِحَكَ وَأَطْعِمْهُ رَقِيقَكَ ".
فَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ إِلَى أَنَّهُ حَرَامٌ عَلَى الْأَحْرَارِ حَلَالٌ لِلْعَبِيدِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنِ السَّادَةِ دُونَ الْعَبِيدِ، وَاعْتَمَدُوا فِيهِ عَلَى رِوَايَةِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " كَسْبُ الْحَجَّامِ خبيثٌ وَمَهْرُ الْبَغِيِّ خبيثٌ، وَثَمَنُ الْكَلْبِ خبيثٌ " فَلَمَّا وَصَفَهُ بِالْخُبْثِ، وَقَرَنَهُ بِالْحَرَامِ كَانَ حَرَامًا.
وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ مَا رَوَاهُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - احْتَجَمَ وَأَمَرَنِي أَنْ أُعْطِيَ الْحَجَّامَ أُجْرَه.
وَرَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ أَبَا طَيْبَةَ حَجَمَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَمَرَ لَهُ بِصَاعٍ مِنْ تمرٍ، وَأَمَرَ مَوَالِيَهُ أَنْ يُخَفِّفُوا عَنْهُ مِنْ خَرَاجِهِ، قَالَ جَابِرٌ: وَكَانَ خَرَاجُهُ ثَلَاثَةَ آصعٍ مِنْ تَمْرٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ، فَخَفَّفُوا عَنْهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ صَاعًا.
وَوَجْهُ الدَّلِيلِ مِنْهُ: أَنَّهُ لَوْ حَرُمَ كَسْبُهُ عَلَى آخِذِهِ حَرُمَ دَفْعُهُ عَلَى مُعْطِيهِ، فَلَمَّا اسْتَجَازَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يَأْمُرَ بِدَفْعِهِ إِلَيْهِ دَلَّ عَلَى جَوَازِ أَخْذِهِ؟
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا حَجَمَهُ أَبُو طَيْبَةَ مُتَطَوِّعًا تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ بِخِدْمَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلِذَلِكَ شَرِبَ دَمَهُ فَقَالَ لَهُ: " قَدْ حَرَّمَ اللَّهُ جِسْمَكَ عَلَى النَّارِ "، وَكَانَ مَا أَعْطَاهُ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُوَاسَاةً، وَلَمْ يَكُنْ أُجْرَةً، فَعَنْهُ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: إنما أعطاه مقابلة على عمله صار عِوَضًا يَنْصَرِفُ عَنْ حُكْمِ الْمُوَاسَاةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ أَبَا طَيْبَةَ كَانَ مَمْلُوكًا لَا يَصِحُّ تَطَوُّعُهُ بِعَمَلِهِ وَلَا يَسْتَحِّلُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَطَوُّعَهُ؛ وَلِأَنَّهُ لَمْ يَزَلِ النَّاسُ عَلَى هَذَا فِي عَصْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَخُلَفَائِهِ إِلَى وَقْتِنَا هَذَا فِي سَائِرِ الْأَمْصَارِ يَتَكَسَّبُونَ بِهَذَا، فَلَا يُنْكِرُهُ مُسْتَحْسِنٌ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، فَدَلَّ عَلَى انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ بِهِ، وَارْتِفَاعِ الْخِلَافِ فِيهِ.
وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ إِلَيْهِ دَاعِيَةٌ، وَالضَّرُورَةَ إِلَيْهِ مَاسَّةٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ الْإِنْسَانُ عَلَى حِجَامَةِ نَفْسِهِ إِذَا احْتَاجَ، وَمَا كَانَ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ الشَّرْعُ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ إِدْخَالِ الضَّرَرِ عَلَى الْخَلْقِ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ "؛ وَلِأَنَّ كُلَّ كَسْبٍ حَلَّ لِلْعَبِيدِ حَلَّ لِلْأَحْرَارِ كَسَائِرِ الْأَكْسَابِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " كَسْبُ الْحَجَّامِ خبيثٌ " فَهُوَ أَنَّ اسْمَ الْخُبْثِ يَتَنَاوَلُ الْحَرَامَ تَارَةً وَالدَّنِيءَ أُخْرَى كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلاَ تَيَمَّمُوا الخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ}