لا يعطي إلا ما يحل إعطاؤه ولآخذه ملكه وقد روي أن رجلاً ذا قرابةٍ لعثمان قدم عليه فسأله عن معاشه فذكر له غَلَّةُ حجامٍ أَوْ حَجَّامَيْنِ فَقَالَ إِنْ كَسَبَكُمْ لوسخٌ أو قال لدنس أو لدنيءٌ أو كلمةً تشبهها ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْحَاجَةَ إِلَى الْمَكَاسِبِ دَاعِيَةٌ لِمَا فَطَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ الْخَلْقَ مِنَ الْحَاجَةِ إِلَى الطَّعَامِ، وَالشَّرَابِ، وَالْكُسْوَةِ لِنَفْسِهِ، وَمَنْ يَلْزَمُهُ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِ مِنْ مُنَاسِبٍ وَمُصَاحِبٍ وَأُصُولُ الْمَكَاسِبِ الْمَأْلُوفَةِ ثَلَاثَةٌ: زِرَاعَةٌ، وَتِجَارَةٌ، وَصِنَاعَةٌ، فَيَنْبَغِي لِلْمُكْتَسِبِ بِهَا أَنْ يَخْتَارَ لِنَفْسِهِ أَطْيَبَهَا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ) {البقرة: 267) .
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ لَمْ يُبَالِ مِنْ أَيْنَ مَطْعُمُهُ وَلَا مِنْ أَيْنَ مَشْرَبُهُ لَمْ يُبَالِ الله من أي أبواب النار الجنة أَدْخَلَهُ ".
وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي أَطْيَبِهَا، فَقَالَ قَوْمٌ: الزِّرَاعَاتُ، وَهُوَ عِنْدِي أَشْبَهُ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ فِيهَا مُتَوَكِّلٌ عَلَى اللَّهِ، فِي عَطَائِهِ، مُسْتَسْلِمٌ لِقَضَائِهِ.
وَقَالَ آخَرُونَ: التِّجَارَةُ أَطْيَبُهَا، وَهُوَ أَشْبَهُ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ؛ لِتَصْرِيحِ اللَّهِ تَعَالَى بِإِحْلَالِهِ فِي كِتَابِهِ، بِقَوْلِهِ: {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) {البقرة: 275) .
وَاقْتِدَاءً بِالصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي اكْتِسَابِهِمْ بِهَا.
وَقَالَ آخَرُونَ: الصِّنَاعَةُ: لِاكْتِسَابِ الْإِنْسَانِ فِيهَا بِكَدِّ يَدَيْهِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ مِنَ الذُّنُوبِ مَا لَا يُكَفِّرُهُ صومٌ وَلَا صلاةٌ وَلَكِنْ يُكَفِّرُهُ عَرَقُ الْجَبِينِ فِي طَلَبِ الْحِرْفَةِ ".
فَأَمَّا الزِّرَاعَةُ فَلَا مَدْخَلَ لَهَا فِي تَحْرِيمٍ وَلَا كَرَاهِيَةٍ، وَهَذَا أَوَّلُ شَيْءٍ عَلَى أَنَّهَا أَطْيَبُ الْمَكَاسِبِ، وَأَمَّا التجارة، فتنقسم ثلاثة أقسام: حلال، وهي: الْبُيُوعُ الصَّحِيحَةُ.
وَحَرَامٍ: وَهُوَ الْبُيُوعُ الْفَاسِدَةُ. وَمَكْرُوهٍ: وَهُوَ الْغِشُّ وَالتَّدْلِيسُ.
وَأَمَّا الصِّنَاعَةُ فَتَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ.
حَلَّالٍ: وَهُوَ مَا أُبِيحَ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي لَا دَنَسَ فِيهَا كَالْكِتَابَةِ وَالتِّجَارَةِ وَالْبِنَاءِ.
وَحَرَامٍ: وَهُوَ مَا حُظِرَ مِنَ الْأَعْمَالِ كَالتَّصَاوِيرِ وَالْمَلَاهِي.
وَمَكْرُوهٍ: وَهُوَ مَا بَاشَرَ فِيهِ النَّجَاسَةَ كَالْحَجَّامِ وَالْجَزَّارِ، وَكَنَّاسِ الْحُشُوشِ، وَالْأَقْذَارِ وَالنَّصُّ فِيهِ وَارِدٌ فِي الْحَجَّامِ، وَهُوَ أَصْلُ نَظَائِرِهِ، وَالنَّصُّ فِيهِ مَا رَوَاهُ مَعْمَرٌ عَنِ