وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إِنْ مَاتَ بِسَبَبٍ حَلَّ أَكْلُهُ، وَإِنْ مَاتَ بِغَيْرِ سَبَبٍ حَرُمَ أَكْلُهُ، وَقَالَ بَعْضُ الْعِرَاقِيِّينَ: إِنْ طَفَا حَرُمَ، وَإِنْ رَسَبَ لَمْ يَحْرُمِ احْتِجَاجًا بِرِوَايَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " نَهَى عَنْ أَكْلِ السَّمَكِ الطَّافِي ".
وَبِرِوَايَةِ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " كُلُوا مَا حَسَرَ عَنْهُ الْبَحْرُ وَمَا أَلْقَى، وَمَا وَجَدْتُمْ مَيْتًا طَافِيًا فَوْقَ الْمَاءِ فَلَا تَأْكُلُوهُ ".
قَالُوا: وَهَذَانِ الْخَبَرَانِ نصٌّ فِي التَّحْرِيمِ.
قَالُوا: وَلِأَنَّ مَوْتَ ذِي الرُّوحِ بِغَيْرِ سَبَبٍ يُوجِبُ تَحْرِيمَ أَكْلِهِ كَالْبَرِّيِّ.
وَدَلِيلُنَا قَوْلُ الله تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ وَللسَّيَّارَةِ} (المائدة: 96) وَقَدْ ذَكَرْنَا تَفْسِيرَهَا، وَأَنَّ طَعَامَهُ طَافِيه عَلَى قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ فِي الْبَحْرِ: " هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ " وَهَذَا كَالنَّصِّ، أَضَافَ الْمَيْتَةَ إِلَى الْبَحْرِ لَا إِلَى سَبَبٍ حَادِثٍ، وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ " فَالْمَيْتَتَانِ الْحُوتُ وَالْجَرَادُ، وَالدَّمَانِ الْكَبِدُ وَالطِّحَالُ "، فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ. وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي ثَلَاثِمِائَةِ رَاكِبٍ وَأَمِيرُنَا أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ. نُرِيدُ عِيرًا لِقُرَيْشٍ، فَأَصَابَنَا جوعٌ شَدِيدٌ حَتَّى أَكَلْنَا الْخَبَطَ فَسُمِّيَ ذَلِكَ الْجَيْشُ جَيْشَ الْخَبَطِ، ثُمَّ أَلْقَى لَنَا الْبَحْرُ وَنَحْنُ بِالسَّاحِلِ دَابَّةً تُسَمَّى الْعَنْبَرَ، فَأَكَلْنَا مِنْهُ نِصْفَ شَهْرٍ، واستدمنا منه، وادهنا بودكه حتى باتت أَجْسَامُنَا، فَأَخَذَ أَبُو عُبَيْدَةَ ضِلْعًا مِنْ أَضْلَاعِهِ فَنَصَبَهُ، ثُمَّ نَظَرَ إِلَى أَطْوَلِ رَجُلٍ فِي الْجَيْشِ، وَأَعْظَمِ جملٍ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَرْكَبَ الْجَمَلَ ثُمَّ يَمُرَّ تَحْتَهُ، فَفَعَلَ فَمَرَّ تَحْتَهُ، فَدَلَّ هَذَا الْخَبَرُ عَلَى أَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِبَاحَةُ أَكْلِ الطَّافِي.
وَالثَّانِي: إِبَاحَةُ أَكْلِ دَوَابِّ الْبَحْرِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حُوتًا.
وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَشْهَدُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ الله عنهما - أَنَّهُ قَالَ: " السَّمَكَةُ الطَّافِيَةُ عَلَى الْمَاءِ حلالٌ، وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ مخالفٌ فَكَانَ إِجْمَاعًا، وَأَكَلَ أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ سَمَكًا طَافِيًا، فَإِنْ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَلَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ إِنْكَارٌ دَلَّ عَلَى إِبَاحَتِهِ سُنَّةً، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ فَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ مُنْكِرٌ كَانَ إِجْمَاعًا؛ وَلِأَنَّ كُلَّ حَيَوَانٍ اسْتَغْنَى عن الذكاة في إباحته استغنى فِي مَوْتِهِ كَالْجَرَادِ؛ وَلِأَنَّ مَا حَلَّ أَكْلُهُ قَبْلَ الظَّفَرِ حَلَّ أَكْلُهُ بَعْدَ الظَّفَرِ كَالْمُذَكَّى.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ جَابِرٍ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: