صَيْدُ الْآلَةِ إِلَّا بِعَقْرِهِ وَجَبَ أَنْ لَا يَحِلَّ صَيْدُ الْجَوَارِحِ إِلَّا بِعَقْرِهِ؛ لِأَنَّهُ أَحَدُ النَّوْعَيْنِ، فَكَانَ الْعَقْرُ شَرْطًا فِي الْحَالَيْنِ.
وَدَلِيلُ الْقَوْلِ الثَّانِي فِي إِبَاحَتِهِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} يُرِيدُ بِهِ الْجَوَارِحَ الْكَوَاسِبَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَمْ حِسَبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ} (الجاثية: 21) أَيِ اكْتَسَبُوا ثُمَّ قَالَ: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) {المائدة: 4) فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي كُلِّ إمساكٍ عَقَرَ أَوْ لَمْ يَعْقِرْ، وَلِأَنَّ شُرُوطَ الذَّكَاةِ مُعْتَبَرَةٌ بِحَالِ الْقُدْرَةِ وَالْعَجْزِ، فَتَجِبُ مَعَ الْقُدْرَةِ فِي مَحَلِّهَا فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ مَا يَسْقُطُ مَعَ الْعَجْزِ، كَذَلِكَ الْعَقْرُ لَا يُشَقُّ اعْتِبَارُهُ في الآلة، فكان شرطاً وشق اعْتِبَاره فِي الْجَارِحِ فَلَمْ يَكُنْ عَقْرُهُ شَرْطًا؛ وَلِأَنَّ مَا كَانَ شَرْطًا فِي تَعْلِيمِ الْجَارِحِ، كَانَ شَرْطًا فِي الِاسْتِبَاحَةِ، كَالْإِمْسَاكِ، وَمَا لَمْ يَكُنْ شَرْطًا فِي التَّعْلِيمِ لَمْ يَكُنْ شَرْطًا فِي الِاسْتِبَاحَةِ، كَالْأَكْلِ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الْعَقْرُ شَرْطًا فِي تَعْلِيمِهِ لَمْ يَكُنْ شَرْطًا فِي اسْتِبَاحَةِ صَيْدِهِ؛ وَلِأَنَّ عَقْرَهُ مِنْ دَوَاعِي الْأَكْلِ الْمُؤَثِّرِ فِي الْحَظْرِ، فَكَانَ تَرْكُ عَقْرِهِ أَصَحَّ في التعليم، وأبعد في الْحَظْرِ، فَكَانَ أَحَقَّ بِالْإِبَاحَةِ مِنَ الْعَقْرِ.
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ رَمَى شَخْصًا يَحْسَبُهُ حَجَرًا فَأَصَابَ صَيْدًا فَلَوْ أَكَلَهُ مَا رَأَيْتُهُ مُحَرَّمًا كَمَا لَوْ أَخْطَأَ شَاةً فَذَبَحَهَا لَا يُرِيدُهَا وَكَمَا لَوْ ذَبَحَهَا وَهُوَ يَرَاهَا خَشَبَةً لَيِّنَةً ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا رَأَى شَخْصًا، فَظَنَّهُ حَجَرًا أَوْ شَجَرَةً، فَرَمَاهُ بِسَهْمٍ، فَبَانَ أَنَّهُ صَيْدٌ قَتَلَهُ حَلَّ أَكْلُهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ رَمَى الشَّخْصَ، وَهُوَ يَظُنُّهُ إِنْسَانًا أَوْ حَيَوَانًا غَيْرَ مَأْكُولٍ مِنْ كَلْبٍ أَوْ خِنْزِيرٍ، فَبَانَ أَنَّهُ صَيْدٌ مَأْكُولٌ قَتَلَهُ حَلَّ أَكْلُهُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ كُلِّهَا، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ: لا يُؤْكَلُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ كُلِّهَا.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: إِنْ ظَنَّهُ غَيْرَ حَيَوَانٍ مِنْ شَجَرٍ أَوْ حَجَرٍ، فَبَانَ صَيْدًا لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ، وَإِنْ ظَنَّهُ حَيَوَانًا غَيْرَ مأكولٍ، فَبَانَ مَأْكُولًا حَلَّ أَكْلُهُ، وَعِلَّةُ إِبَاحَتِهِ عِنْدَنَا مُخْتَلَفٌ فِيهَا بَيْنَ أَصْحَابِنَا عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْعِلَّةَ فِي إِبَاحَتِهِ قَصْدُهُ لِلْفِعْلِ، فَكَانَ مَا حَدَثَ مِنْ فِعْلِهِ الْمَقْصُودِ مُبَاحًا، كَمَا لَوْ قَصَدَ ذَبْحَ شَاةٍ فَذَبَحَهَا، وَهُوَ يَحْسَبُهَا غَيْرَهَا، حَلَّ أَكْلُهَا كَمَا لَوْ قَبَضَ عَلَى شيءٍ يَحْسَبُهُ خَشَبَةً لَيِّنَةً فَقَطَعَهَا فَبَانَ أَنَّهُ حَلْقُ شَاةٍ قَدْ ذَبَحَهَا حَلَّ أَكْلُهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ تَعْلِيلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ إِنَّ الْعِلَّةَ فِي إِبَاحَتِهِ مُبَاشَرَتُهُ لِلْفِعْلِ دُونَ الْقَصْدِ؛ لِأَنَّ ذَكَاةَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ مُبَاحَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا قصدٌ، فَكَانَ التَّعْلِيلُ بِالْمُبَاشِرَةِ أَوْلَى مِنَ التعليل بالقصد ولا يعتبر بنية الزكاة عَلَى التَّعْلِيلَيْنِ جَمِيعًا،