قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَمَا نَالَتْهُ الْجَوَارِحُ فَقَتَلَتْهُ وَلَمْ تُدْمِهِ احْتَمَلَ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يُؤْكَلَ حَتَّى يُجْرَحَ قَالَ الله تعالى: {مِنَ الجَوَارِحِ} والآخر أنه حلٌّ (قال المزني) الأول أولاهما به قياساً على رامي الصيد أو ضاربه لا يؤكل إلا أن يجرحه ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ أَرْسَلَ كَلْبَهُ أَوْ غَيْرَهُ مِنَ الْجَوَارِحِ عَلَى صَيْدٍ، فَمَاتَ الصَّيْدُ بِإِرْسَالِهِ عَلَيْهِ، فَلَا يَخْلُو حَالُ مَوْتِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يُتْعِبَهُ الْكَلْبُ بِالسَّعْيِ عَلَيْهِ حَتَّى يَسْقُطَ الصَّيْدُ مَيْتًا بِالْإِعْيَاءِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَجْرَحَهُ الْكَلْبُ، فَهَذَا مَيْتَةٌ لَا يُؤْكَلُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ فِعْلٌ يَكُونُ تَذْكِيَةً.
وَالْحَالُ الثَّانِيةُ: أَنْ يَنَالَهُ الْكَلْبُ، فَيَعْقِرُهُ، فَيَمُوتَ مِنْ عَقْرِهِ وَجِرَاحَتِهِ، فَيَحِلَّ أَكْلُهُ سَوَاءٌ جَرَحَهُ بِأَنْيَابِهِ أَوْ بِمَخَالِبِهِ فِي مَقْتَلٍ أَوْ غَيْرِ مَقْتَلٍ مِنْ رَأْسٍ أَوْ ذَنَبٍ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) {المائدة: 4) .
فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مَوْضِعِ عَقْرِ الْكَلْبِ، هَلْ يَحِلُّ أَكْلُهُ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ سَوَاءٌ كَانَ قَدْ غَسَلَهُ أَوْ لَمْ يَغْسِلْهُ، وَيُأْكَلُ مَا عَدَاهُ مِنْ جَسَدِهِ؛ لِأَنَّ لُعَابَ الْكَلْبِ وَنَجَاسَةَ أَنْيَابِهِ تَسْرِي فِي مَحَلِّهِ فَلَا يَصِلُ إِلَيْهِ الْغَسْلُ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُ يَحِلُّ أَكْلُهُ، لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةٍ حُكِمَ بِإِبَاحَتِهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِثْنَاءٍ، فَعَلَى هَذَا هَلْ يَجِبُ غَسْلُهُ قَبْلَ أَكْلِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَجِبُ غَسْلُهُ قِيَاسًا عَلَى مَحَلِّ وُلُوغِهِ، وَلَا يَحِلُّ أَكْلُهُ قَبْلَ الْغَسْلِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجِبُ غَسْلُهُ؛ لِلُحُوقِ الْمَشَقَّةِ فِيهِ، فصار عفوا كسائر ما يشتق التَّحَرُّزُ مِنْهُ مِنْ جَمِيعِ الْأَنْجَاسِ.
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ مَوْتُ الصَّيْدِ بِصَدْمَةِ الْكَلْبِ أَوْ بِضَغْطَتِهِ أَوْ بِقُوَّةِ إِمْسَاكِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْقِرَهُ بِجُرْحٍ مِنْ نَابٍ أَوْ مِخْلَبٍ، فَفِي إِبَاحَةِ أَكْلِهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ، وَرَوَاهُ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، وَزُفَرُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ حَرَامٌ لَا يُؤْكَلُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَرَوَاهُ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ اللُّؤْلُؤِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ حَلَالٌ يُؤْكَلُ.
فَدَلِيلُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فِي تَحْرِيمِهِ قَوْله تَعَالَى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلَّبِينَ} (المائدة: 4) فَجَعَلَ الْجُرْحَ نَعْتًا، فَصَارَ فِي الْإِبَاحَةِ شَرْطًا.
وَرَوَى رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلُوا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا لَمْ يُنْهِرْ لَا يُؤْكَلُ؛ وَلِأَنَّ قَتْلَ الصَّيْدِ قَدْ أُبِيحَ بِآلَةٍ وَبِجَوَارِحَ، فَلَمَّا لَمْ يَحِلَّ