جِرَاحِهِ أَرْشٌ مقدرٌ فَهُوَ كَالصَّيْدِ وَسَائِرِ الْبَهَائِمِ عَلَى مَا شَرَحْنَاهُ، وَإِنْ كَانَ فِي جِرَاحِهِ أرش مقدر كالأطراف، فقد خرج فِيهِ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ يَصِيرُ بِتَقْدِيرِ أَطْرَافِهِ كَالْحُرِّ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُ يَصِيرُ مَعَ التَّقْدِيرِ كَالْبَهِيمَةِ وَكِلَا الْوَجْهَيْنِ مَعْلُولٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ تَنْقُصُ قِيمَتُهُ بَعْدَ جِرَاحَةِ الْأَوَّلِ، بِخِلَافِ الْحُرِّ فَيَبْطُلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحُرِّ، وَالْعَبْدُ تَتَقَدَّرُ أَطْرَافُهُ بِخِلَافِ الْبَهِيمَةِ فَبَطَلَ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَهِيمَةِ، فَإِذَا بَطَلَ الْوَجْهَانِ صَارَ حُكْمُهُ فِي الْمُقَدَّرِ مُشْتَرِكًا بَيْنَ أَحْكَامِ الْحُرِّ فِي التَّقْدِيرِ وَبَيْنَ أَحْكَامِ البهيمة في اعتبار القيمة ثم يخالفها في وجه ثالث: أنك تعتبر في طرق الْعَبْدِ أَكْثَرَ الْأَمْرَيْنِ مِنَ الْمُقَدَّرِ فِيهِ أَوْ مَا نَقَصَ مِنَ الْقِيمَةِ مَا لَمْ يَسْتَوْعِبِ الْمُقَدَّرُ جَمِيعَ الْقِيمَةِ، فَإِنِ اسْتَوْعَبَهَا أَوْجَبْتَ أَقَلَّهَا، وَهُوَ نُقْصَانُ الْقَيِّمَةِ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ مَعَ السِّرَايَة تَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ جَمِيعِهَا عَلَى أَحَدِهِمَا فَيُعْمَلُ عَلَى مَا يُوجِبُهُ هَذَا التَّعْلِيلُ مِنَ الْوُجُوهِ الْخَمْسَةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الْجَانِيَانِ عَلَى الصَّيْدِ وَالْبَهِيمَةِ أَجْنَبِيَّيْنِ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا مَالِكًا فَعَلَى كُلِّ واحدٍ مِنْهُمَا مِنَ الْقِيمَةِ مَا أَوْجَبَتْهُ الشَّرِكَةُ عَلَى الْوُجُوهِ الْخَمْسَةِ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مَالِكًا سَقَطَ عَنْهُ قِسْطُهُ، وَوَجَبَ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ قِسْطُهُ، وَيُتَصَوَّرُ فِي غَيْرِ الصَّيْدِ أَنْ يَكُونَ الْمَالِكُ أَوَّلًا وَثَانِيًا، وَلَا يُتَصَوَّرُ فِي الْعَبْدِ الْمُمْتَنِعِ أَنْ يَكُونَ الْمَالِكُ فِي الْمَضْمُونِ إِلَّا الْأَوَّلَ دُونَ الثَّانِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ كَانَ مُمْتَنِعًا بَعْدَ رَمْيَةِ الْأَوَّلِ يَطِيرُ إِنْ كَانَ طَائِرًا أَوْ يَعْدُو إِنْ كَانَ دَابَّةً ثَمَّ رَمَاهُ الثَّانِي فَأَثْبَتَهُ كَانَ لِلثَّانِي ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الصَّيْدَ ضَرْبَانِ، مُمْتَنِعٌ وَغَيْرُ مُمْتَنِعٍ فَأَمَّا الْمُمْتَنِعُ، وَهُوَ مَا بَعُدَ عَنْ طَلَبِهِ بِطَيَرَانِهِ إِنْ كَانَ مِنَ الطَّيْرِ أَوْ بِعَدْوِهِ إِنْ كَانَ مِنَ الدَّوَابِّ، فَلَمْ يُقْدَرْ عَلَيْهِ إِلَّا بِآلَةٍ يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَيْهِ. وَأَمَّا غَيْرُ الْمُمْتَنِعِ، وَهُوَ صِغَارُهُ الَّذِي لَمْ يَتَكَامَلْ قُوَّتُهُ، وَلَا يَقْدِرُ أَنْ يَنْهَضَ بِجَنَاحٍ، وإِنْ كَانَ طَائِرًا، وَلَا يَعْدُوَ بِرِجْلٍ إِنْ كان دابة قال الله عز وجل: {ياَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ) {المائدة: 94] فِيهِ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَعْنَاهُ: لَيُكَلِّفَنَّكُمْ إِبَاحَةَ مَا أَحَلَّهُ، أَوْ حَظْرَ مَا حَرَّمَهُ.
وَالثَّانِي: لَيَخْتَبِرَنَّكُمْ فِي قَبُولِ أَوَامِرِهِ، وَالِانْتِهَاءِ عَنْ زَوَاجِرِهِ. {تَنَالَهُ أَيْدِيَكُمْ وَرِمَاحَكُمْ} فِيهِ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا تَنَالُهُ أَيْدِينَا الصِّغَارُ، ورماحنا الكبار، قال ابْنُ عَبَّاسٍ فَإِنْ كَانَ الصَّيْدُ غَيْرَ مُمْتَنِعٍ لِصِغَرٍ لَمْ يُمْلَكْ إِلَّا بِالْأَخْذِ وَالتَّنَاوُلِ؛ لِقَوْلِهِ تعالى {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ} وَلَا تَكُونُ ذَكَاتُهُ إِلَّا فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ، لِأَنَّهُ مَقْدُورٌ عَلَيْهِ، فَلَوْ دَلَّ عَلَيْهِ رجلٌ وَأَخَذَهُ آخَرُ، كَانَ مِلْكًا لِآخِذِهِ دُونَ الدَّالِ عَلَيْهِ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الصَّيْدُ لِمَنْ صَادَهُ لَا لِمَنْ أَثَارَهُ "، فَلَوْ نَبَشَ عَلَيْهِ أَحَدُهُمَا بَيْتَهُ حَتَّى طَيَّرَهُ،