وَفِيهَا تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْمُرَاغِمَ الْمُتَحَوِّلُ مِنْ أَرْضٍ إِلَى أَرْضٍ
وَالسَّعَةُ: الْمَالُ
وَالثَّانِي: إِنَّ الْمُرَاغَمَ طَلَبُ الْمَعَاشِ
وَالسَّعَةُ: طِيبٌ الْعَيْشِ، فَكَانَتِ الْهِجْرَةُ مُبَاحَةً لِمَنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ مِنَ الْأَذَى أَوْ عَلَى دِينِهِ مِنَ الْفِتْنَةِ
فَأَمَّا الْآمِنُ عَلَى نَفْسِهِ وَدِينِهِ فَهِجْرَتُهُ عَنِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَعْصِيَةٌ إِلَّا لِحَاجَةٍ لِمَا فِي مَقَامِهِ مِنْ ظُهُورِ الْإِيمَانِ وَكَثْرَةِ الْعَدَدِ، وَهَذِهِ الْهِجْرَةُ قَدْ كَانَتْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ وَهِيَ مُبَاحٌ وَلَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ وَفَى هَذِهِ الْهِجْرَةِ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} [النحل: 41] يَعْنِي: هَاجَرُوا إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ مِنْ بَعْدِ مَا ظَلَمَهُمْ أَهْلُ مَكَّةَ: {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} [النحل: 41] فِيهِ
تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: نُزُولُ الْمَدِينَةِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ
وَالثَّانِي: النَّصْرُ عَلَى عَدُوِّهِمْ، قاله الضحاك
وأما حكمهما بَعْدَ هِجْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَهِيَ مُخْتَصَّةٌ بِالْوُجُوبِ دُونَ الْإِبَاحَةِ، لِأَنَّهَا هِجْرَةٌ إِلَى الرَّسُولِ، فَقَدْ كَانَتْ هِجْرَةُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ مَكَّةَ قَبْلَ الْفَتْحِ إِلَيْهِ وَهُمْ فِيهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: مَنْ كَانَ مِنْهُمْ فِي سَعَةِ مَالٍ وَعَشِيرَةٍ، لَا يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ وَلَا عَلَى دِينِهِ كَالْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَمِثْلُ هَذَا قَدْ كَانَ مَأْمُورًا بِالْهِجْرَةِ نَدْبًا، وَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ حَتْمًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء: 100]
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ دِينِهِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْخُرُوجِ بِأَهْلِهِ وَمَالِهِ فَهَذَا قَدْ كَانَتِ الْهِجْرَةُ عَلَيْهِ وَاجِبَةً، وَهُوَ بِالتَّأَخُّرِ عَنْهَا عَاصٍ لِأَنَّهُ يَتَعَرَّضُ بِالْمَقَامِ لِلْأَذَى وَيَمْتَنِعُ بِالتَّأَخُّرِ عَنِ النُّصْرَةِ، قَالَ اللَّهُ تعالى {والذين تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها}
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ دِينِهِ وَهُوَ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى الْخُرُوجِ بِنَفْسِهِ وَأَهْلِهِ، إِمَّا لِضَعْفِ حَالٍ أَوْ عَجْزِ بَدَنٍ، فَهَذَا مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى مِثْلِهِ فِي الْمَقَامِ حَرَجٌ وَلَا مَأْثَمٌ، وَهُوَ بِالتَّأَخُّرِ عَنِ الْهِجْرَةِ مَعْذُورًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ من الرجال