قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " لَمَا مَضَتْ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُدَّةٌ مِنْ هِجْرَتِهِ أَنْعَمَ اللَّهُ فِيهَا عَلَى جَمَاعَاتٍ بِاتِّبَاعِهِ حَدَثَتْ لَهَا مَعَ عَوْنِ اللَّهَ قُوَّةٌ بِالْعَدَدِ لَمْ تَكُنْ قَبْلَهَا فَفَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجِهَادَ فَقَالَ تَعَالَى {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وهو كره لكم} وقال تعالى {وقاتلوا في سبيل الله} مَعَ مَا ذَكَرْتُهُ فُرِضَ الْجِهَادُ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وإذ قد مضت سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في أعلام نُبُوَّتِهِ، وَتَرْتِيبِ شَرِيعَتِهِ وَمَا سَارَ بِأُمَّتِهِ فِي حَرْبِهِ وَغَزَوَاتِهِ الَّتِي لَا يَسْتَوْضِحُ الْعُلَمَاءُ طَرِيقَ الشَّرْعِ إِلَّا بِهَا فَهَذَا الْبَابُ يَشْمَلُ مِنْهَا عَلَى فَصْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وُجُوبُ الْهِجْرَةِ
وَالثَّانِي: فَرْضُ الْجِهَادِ
فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي وُجُوبِ الْهِجْرَةِ، فَالْكَلَامُ فِيهَا يَشْمَلُ عَلَى فَصْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: حُكْمُهَا فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
وَالثَّانِي: حُكْمُهَا بَعْدَهُ.
فَأَمَّا حُكْمُهَا فِي زَمَانِهِ فَلَهَا حَالَتَانِ
إِحْدَاهُمَا: قَبْلَ هِجْرَتِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ
وَالثَّانِيَةُ: بَعْدَ هِجْرَتِهِ إِلَيْهَا
فَأَمَّا حُكْمُهَا وَهُوَ بِمَكَّةَ قَبْلَ هِجْرَتِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَهِيَ مُخْتَصَّةٌ بِالْإِبَاحَةِ دُونَ الْوُجُوبِ، لِأَنَّهَا هِجْرَةٌ عَنِ الرَّسُولِ، فَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ حِينَ اشْتَدَّ بِهِمُ الْأَذَى وَتَتَبَّعَتْهُمْ قُرَيْشٌ بِالْمَكَارِهِ، رَغِبُوا إِلَى اللَّهِ فِي الْإِذْنِ لَهُمْ بِالْهِجْرَةِ عَنْهُمْ فَقَالُوا مَا حَكَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا} [النساء: 75] يَعْنِي مَكَّةَ {وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} [النساء " 75] فَأَجَابَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى مَا سَأَلُوا مِنَ الْهِجْرَةِ فَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً} [النساء: 100]