هَؤُلَاءِ الطَّرِيقَ، وَأَخَذُوا مِنَ الْأَمْوَالِ كَذَا، وَقَتَلُوا مِنَ النُّفُوسِ كَذَا قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا قَدْ يكونان بمعزل على المدعين فيشاهدوا قطع الطريق، وَلَا يَسْأَلُهُمُ الْحَاكِمُ هَلْ كَانَا مَعَهُمْ أَمْ لا؟ وقال بعض العراقيين: لا يحكم بشاهدتهما حَتَّى يَسْأَلَهُمَا هَلْ كَانَا مَعَ الْقَوْمِ أَمْ لَا؟ فَإِنْ قَالَا: لَا حُكِمَ لَهَا، وَإِنْ قَالَا: نَعَمْ لَمْ يُحْكَمْ؛ لِأَنَّ مَا احْتَمَلَ الْقَبُولَ وَالرَّدَّ لَمْ يُحْكَمْ بِهِ مَعَ الِاحْتِمَالِ، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ الْعَدَالَةِ تَصْرِفُ الشَّهَادَةَ إِلَى الصِّحَّةِ دُونَ الْفَسَادِ كَمَا أَنَّ الظَّاهِرَ صِدْقُهُمَا وَإِنْ جَازَ كَذِبُهُمَا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْعَلَ الِاحْتِمَالُ طَرِيقًا إِلَى رَدِّهَا إِذَا أوجب الظاهر قبولهما.
قال الشافعي: " وإذا اجتمعت على رجل حدود وقذف بُدِئَ بِحَدِّ الْقَذْفِ ثَمَانِينَ جَلْدَةً ثُمَّ حُبِسَ فإذا برأ حد في الزنا مائة جلدة فإذا برأ قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى وَرِجْلُهُ الْيُسْرَى مِنْ خِلَافٍ لِقَطْعِ الطَّرِيقِ وَكَانَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى لِلسَّرِقَةِ وَقَطْعِ الطريق معاً ورجله لِقَطْعِ الطَّرِيقِ مَعَ يَدِهِ ثُمَّ قُتِلَ قَوَدًا) .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا اجْتَمَعَ عَلَى رَجُلٍ حُدُودٌ مِنْ جَلْدٍ، وَقَطْعٍ، وَقَتْلٍ، بُدِئَ بِالْجَلْدِ، ثُمَّ بالقطع، ثم يالقتل، ولا يسقط بالقتل ما عداه.
وقال أبة حَنِيفَةَ: إِذَا اجْتَمَعَ مَعَهَا قَتْلٌ سَقَطَ بِالْقَتْلِ مَا عَدَاهُ، وَإِنْ لَمْ يَجْتَمِعْ مَعَهَا قَتْلٌ كَانَ الْإِمَامُ مُخَيَّرًا فِي الْبِدَايَةِ بِمَا شَاءَ مِنَ الْجَلْدِ أَوِ الْقَطْعِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الْقَتْلَ أَعَمُّ فَيَدْخُلُ فِيهِ مَا دُونَهُ، وَيَتَسَاوَى مَا عداه فلم يتعين تقديم بَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ.
وَدَلِيلُنَا: عُمُومُ الظَّوَاهِرِ فِي الْحُدُودِ الْمُوجِبِ لِاسْتِيفَائِهَا، وَلِأَنَّهَا حُدُودٌ لَا تَتَدَاخَلُ فِي غَيْرِ الْقَتْلِ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَتَدَاخَلَ فِي الْقَتْلِ كَحَدِّ الْقَذْفِ وَهُوَ انْفِصَالٌ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ، فَأَمَّا تَقْدِيمُ الْجَلْدِ عَلَى الْقَطْعِ فَلِأَنَّهُ أَخَفُّ وَأَسْلَمُ مِنَ الْقَطْعِ الَّذِي فِيهِ إِرَاقَةُ دم واستهلاك؛ فَلِأَجْلِ ذَلِكَ قُدِّمَ عَلَيْهِ.
فَإِذَا ثَبَتَ ما وصفنا مِنْ سُقُوطِ التَّدَاخُلِ وَوُجُوبِ الْبِدَايَةِ بِالْأَخَفِّ فَالْحُدُودُ إِذَا اجْتَمَعَتْ تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: جَلْدٌ، وَقَطْعٌ، وَقَتْلٌ، فَيُقَدَّمُ الْجَلْدُ عَلَى الْقَطْعِ وَالْقَتْلِ؛ لمَا ذكرنا، والجلد يستحق بِأَرْبَعَةِ أَسْبَابٍ تَعْزِيرٍ، وَقَذْفٍ، وَشُرْبِ خَمْرٍ، وَزِنَا بِكْرٍ، فَإِذَا اجْتَمَعَتْ قُدِّمَ التَّعْزِيرُ عَلَى جَمِيعِهَا لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَخَفُّ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ فِي الْأَغْلَبِ ثُمَّ فِيمَا يُبْدَأُ به بَعْد التَّعْزِيرِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ يُقَدَّمُ حَدُّ الْقَذْفِ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أبي هريرة، يُقَدَّمُ حَدُّ الْخَمْرِ عَلَى حَدِّ الْقَذْفِ؛