وَمِنَ الْفُقَهَاءِ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، وَاسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: 229] فَكَانَ ذَلِكَ عَائِدًا إِلَى مَا أعطي مِنَ الْمَهْرِ دُونَ غَيْرِهِ، وَبِمَا رَوَاهُ عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ خَوْلَةَ بِنْتَ سَلُولَ أَتَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَا أَعِيبُ عَلَى ثَابِتٍ خلقًا وَلَا دِينًا وَلَكِنِّي لَا أَسْتَطِيقُهُ وَأَكْرَهُ الْكُفْرَ فِي الْإِسْلَامِ، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَقَالَ لِثَابِتٍ: خُذْهَا وَلَا تَزْدَدْ فَمَنَعَهُ مِنَ الزِّيَادَةِ فَدَلَّ عَلَى حَظْرِهَا.
وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] فَاقْتَضَى رَفْعَ الْجُنَاحِ عَنْ جَمِيعِ مَا افْتَدَتْ بِهِ مِنْ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ، وَلِأَنَّ الرُّبَيِّعَ بِنْتَ مُعَوِّذِ بْنِ عَفْرَاءَ خَالَعَتْ زَوْجَهَا بِجَمِيعِ مِلْكِهَا فَأَمْضَاهُ عُثْمَانُ وَجَعَلَ لَهُ مَا دُونَ عِقَاصِ الرَّأْسِ، وَلِأَنَّ مَا اسْتُعِيدَ مِنَ الْإِبْدَالِ بِعُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ لَمْ تَتَقَدَّرْ كَالْأَثْمَانِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَتَقَدَّرْ مَا يَمْتَلِكُهُ مِنْ مَالِهَا هِبَةً فَأَوْلَى أَن لا يَتَقَدَّرَ مَا يَمْتَلِكُهُ مِنْ مَالِهَا خُلْعًا.
فَأَمَّا الْآيَةُ فَأَوَّلهَا تَتَضَمَّنُ النَّهْيَ عَنْ أَخْذِ مَا أَعْطَى، وَآخِرُهَا يَتَضَمَّنُ إِبَاحَةَ أَخْذِ الْفِدَاءِ، فَلَمْ يُخَصَّ خُصُوصُ أَوَّلِهَا فِي النَّهْيِ بِعُمُومِ آخِرِهَا فِي الْإِبَاحَةِ لِأَنَّ النَّهْيَ ضِدُّ الْإِبَاحَةِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُخَصَّ أَحَدهُمَا بِالْآخَرِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ خُلْعِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَيْنَ خَوْلَةَ وَزَوْجِهَا بِالْمَهْرِ الَّذِي أَعْطَاهَا فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِهِ بِالْمَهْرِ وَلَا يَمْنَعُ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ كَمَا لَا يَمْنَعُ مِنَ النُّقْصَانِ مِنْهُ، لِأَنَّ الزَّوْجَ لَمْ يَطْلُبْ زِيَادَةً كَمَا لم تطلب الزوجة نقصاناً.
قال الشافعي فِي كِتَابِ الْإِمْلَاءِ عَلَى مَسَائِلِ مَالِكٍ: وَلَوْ خَلَعَهَا تَطْلِيقَةً بِدِينَارٍ عَلَى أَنَّ لَهُ الرَّجْعَةَ فَالطَّلَاقُ لَازِمٌ لَهُ وَلَهُ الرَّجْعَةُ وَالدِّينَارُ مَرْدُودٌ وَلَا يَمْلِكُهُ وَالرَّجْعَةُ مَعًا وَلَا أُجِيزُ عَلَيْهِ مِنَ الطَّلَاقِ إِلَّا مَا أَوْقَعَهُ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) رحمه الله ليس هذا قياس أصله لأنه يجعل النكاح والخلع بالبدل المجهول والشرط الفاسد سواء ويجعل لها في النكاح مهر مثلها وله عليها في الخلع مهر مثلها ومن قوله لو خلعها بمائة على أنها متى طلبتها فهي لها وله الرجعة عليها أن الخلع ثابت والشرط والمال باطل وعليها مهر مثلها (قال المزني) رحمه الله ومن قوله لو خلع محجوراً عليها بمال إن المال يبطل وله الرجعة وإن أراد يكون بائناً كما لو طلقها تطليقة بائنا لم تكن بائنا وكان له الرجعة (قال المزني) رحمه الله تعالى وكذلك إذا طلقها بدينار على أن له الرجعة لا يبطله الشرط) .