يُوجِبُ الرَّجْعَةَ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ دُخُولَ الْعِوَضِ فِي الْعِتْقِ لَا يَمْنَعُ مِنْ ثُبُوتِ الْوَلَاءِ كَذَلِكَ ثُبُوتُ الْعِوَضِ فِي الطَّلَاقِ لَا يَمْنَعُ مِنْ ثُبُوتِ الرَّجْعَةِ.
وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جناح عليهما فيما افتدت به} وَالِافْتِدَاءُ هُوَ الْخَلَاصُ وَالِاسْتِنْقَاذُ، مَأْخُوذٌ مِنِ افْتِدَاءِ الأسير وهو خلاصه واستنقاذه، فلو ثبت الرَّجْعَةُ فِيهِ لَمَا حَصَلَ بِهِ الْخَلَاصُ وَالِاسْتِنْقَاذُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الِافْتِدَاءَ يَمْنَعُ مِنْ ثُبُوتِ الرَّجْعَةِ، وَلِأَنَّ الزَّوْجَةَ مَلَكَتْ بُضْعَهَا بِالْخُلْعِ كَمَا مَلَكَ الزَّوْجُ بُضْعَهَا بِالنِّكَاحِ، فَلَمَّا كَانَ الزَّوْجُ قَدْ مَلَكَ بِالنِّكَاحِ بُضْعَهَا مِلْكًا تَامًّا لَا سُلْطَانَ فِيهِ لِلزَّوْجَةِ وَجَبَ أَنْ تَمْلِكَ الزَّوْجَةُ بُضْعَهَا بِالْخُلْعِ مِلْكًا تَامًّا لَا سُلْطَانَ فِيهِ لِلزَّوْجِ وَلِأَنَّ الزَّوْجَ قَدْ مَلَكَ عِوَضَ الْخُلْعِ فِي مُقَابَلَةِ مِلْكِ الزَّوْجَةِ لِلْبُضْعِ فَلَمَّا اسْتَقَرَّ مِلْكُ الزَّوْجِ لِلْعِوَضِ حَتَّى لَمْ يَبْقَ لِلزَّوْجَةِ فِيهِ حَقٌّ وَجَبَ أَنْ يَسْتَقِرَّ مِلْكُ الزَّوْجَةِ للبضع وأن لا يَبْقَى لِلزَّوْجِ فِيهِ حَقٌّ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْعِتْقِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعِتْقَ لَا يَنْفَكُّ مِنْ ثُبُوتِ الْوَلَاءِ فَلِذَلِكَ اسْتَوَى حَالُهُ مَعَ وُجُودِ الْعِوَضِ وَعَدَمِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الطَّلَاقُ لِأَنَّهُ قَدْ يَنْفَكُّ مِنْ ثُبُوتِ الرَّجْعَةِ.
فَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ حَالُهُ فِي وُجُودِ الْعِوَضِ وَعَدَمِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ فِي ثُبُوتِ الْوَلَاءِ مَا يَمْنَعُ مِنْ مَقْصُودِ الْعِتْقِ فِي زَوَالِ الرِّقِّ وَجَوَازِ التَّصَرُّفِ، فَثَبَتَ الْوَلَاءُ مَعَ الْعِوَضِ، كَمَا يَثْبُتُ مَعَ عَدَمِهِ، وَثُبُوتُ الرَّجْعَةِ تَمْنَعُ مِنْ مَقْصُودِ الْخُلْعِ فِي إِسْقَاطِ حَقِّ الزَّوْجَةِ وَإِزَالَةِ ضَرَرِهِ فَلِذَلِكَ لَمْ تَثْبُتِ الرَّجْعَةُ فِيهِ.
وَجَوَابٌ ثالث وهو أن ثبوت الولاء لا تقتضي عَوْدَ الْعَبْدِ إِلَى مِلْكِ السَّيِّدِ، وَالرَّجْعَةَ تَقْتَضِي عَوْدَ الزَّوْجَةِ إِلَى نِكَاحِ الزَّوْجِ فَافْتَرَقَا.
قال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: (وَإِذَا حَلَّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسًا عَلَى غَيْرِ فِرَاقٍ حَلَّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسًا وَيَأْخُذَ مَا الْفِرَاقُ بِهِ) .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ الْخُلْعُ يَجُوزُ بِمَا اتَّفَقَ الزَّوْجَانِ عَلَيْهِ مِنَ الْعِوَضِ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا سَوَاءٌ كَانَ بِمِثْلِ الْمَهْرِ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ وَسَوَاءٌ كَانَ مِنْ جِنْسِهِ أَوْ غَيْرِ جِنْسِهِ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَمِنَ التَّابِعِينَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَقَالَ قَوْمٌ: لَا يَجُوزُ الْخُلْعُ إِلَّا بِالْمَهْرِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ عَلَيْهِ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمِنَ التَّابِعِينَ الْحَسَنُ وَابْنُ الْمُسَيَّبِ وَالشَّعْبِيُّ وَعَطَاءٌ وَالزُّهْرِيُّ.