فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لأن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تَدَعَهُمْ عَالَةً ".
فَهُوَ أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ تَعْلِيلًا، لِرَدِّ الزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ تَعْلِيلًا لَجَازَتِ الزِّيَادَةُ عَلَى الثُّلُثِ مَعَ غِنَاهُمْ، إِذَا لَمْ يَصِيرُوا عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ، وَإِنَّمَا قَالَهُ صِلَةً فِي الْكَلَامِ وَتَنْبِيهًا عَلَى الْحَظِّ.
وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ: يَضَعُ مَالَهُ حيث يشاء.
فَمَالُهُ الثُّلُثُ وَحْدَهُ. وَلَهُ وَضْعُهُ حَيْثُ شَاءَ.
وَأَمَّا الصَّدَقَةُ فَهِيَ كَالْوَصِيَّةِ، إِنْ كَانَتْ فِي الصِّحَّةِ أُمْضِيَتْ، مَعَ وُجُودِ الْوَارِثِ، وَعَدَمِهِ، وَإِنْ كَانَتْ فِي الْمَرَضِ رُدَّتْ إِلَى الثُّلُثِ مَعَ وجود الوارث وعدمه.
وَتَجُوزُ الْوَصِيَّةُ بِثُلُثِ مَالِهِ وَإِنْ لَمْ يعلم قدره.
واختلف أصحابنا: هل يراعى ثلث مَالِهِ وَقْتَ الْوَصِيَّةِ أَوْ عِنْدَ الْوَفَاةِ؟
عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَكْثَرُ الْبَغْدَادِيِّينَ، أَنَّهُ يُرَاعَى ثُلُثُهُ وَقْتَ الْوَصِيَّةِ، وَلَا يُدْخَلُ فيه مَا حَدَثَ بَعْدَهُ مِنْ زِيَادَةٍ. لِأَنَّهَا عَقْدٌ وَالْعُقُودُ لَا يُعْتَبَرُ بِهَا مَا بَعْدُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة وَأَكْثَرُ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّهُ يُرَاعَى ثُلُثُ مَالِهِ وَقْتَ الْمَوْتِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ مَا حَدَثَ قَبْلَهُ مِنْ زِيَادَةٍ، لِأَنَّ الْوَصَايَا تُمْلَكُ بِالْمَوْتِ فَاعْتُبِرَ بِهَا وَقْتَ مِلْكِهَا.
فَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ: إِنْ وَصَّى بِثُلُثِ مَالِهِ، وَلَا مَالَ لَهُ، ثُمَّ أَفَادَ مَالًا قَبْلَ الْمَوْتِ، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ تَكُونُ الْوَصِيَّةُ بَاطِلَةً اعْتِبَارًا بِحَالِ الْوَصِيَّةِ.
وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي تَكُونُ الْوَصِيَّةُ صَحِيحَةً اعْتِبَارًا بِحَالِ الْمَوْتِ.
وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ:
لَوْ وَصَّى بِعَبْدٍ مِنْ عَبِيدِهِ، وَهَوَ لَا يَمْلِكُ عَبْدًا، ثُمَّ مَلَكَ قَبْلَ الْمَوْتِ عبدا صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ إِنِ اعْتُبِرَ بِهَا حَالُ الْمَوْتِ، وَبَطَلَتْ: إِنِ اعْتُبِرَ بِهَا حَالُ الْقَوْلِ.
وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ:
لَوْ وَصَّى بِثُلُثِ مَالِهِ، وَلَهُ مَالٌ، فَهَلَكَ مَالُهُ، وَأَفَادَ غَيْرَهُ، صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ فِي الْمَالِ الْمُسْتَفَادِ إِنِ اعْتُبِرَ بِهَا حَالُ الْمَوْتِ، وَبَطَلَتْ إِنِ اعْتُبِرَ بِهَا حَالُ الْوَصِيَّةِ.
وَأَمَّا الْفَصْلُ الرَّابِعُ: فِي الْمُوصَى إِلَيْهِ، فَقَدْ أَفْرَدَ الشَّافِعِيُّ لِلْأَوْصِيَاءِ بَابًا اسْتَوْفَى فِيهِ أَحْكَامَهُمْ.
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فيما يُرْوَى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من قوله: " ما حق امرئ مسلم " يحتمل ما الحزم لامرئ مسلم " يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده " ويحتمل ما المعروف في الأخلاق إلا هذا لا من جهة الفرض (قال) فإذا أوصى الرجل بِمِثْلِ نَصِيبِ ابْنِهِ وَلَا ابْنَ لَهُ غَيْرُهُ فَلَهُ النِّصْفُ فَإِنْ لَمْ يُجِزْ الِابْنُ فَلَهُ الثلث ".