فَإِنْ كَانَ لَهُ وَارِثٌ: كَانَتِ الْوَصِيَّةُ مَوْقُوفَةً عَلَى إِجَازَتِهِ وَرَدِّهِ فَإِنْ رَدَّهَا رَجَعَتِ الْوَصِيَّةُ إِلَى الثُّلُثِ. وَإِنْ أَجَازَهَا صَحَّتْ، ثُمَّ فِيهَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّ إِجَازَةَ الْوَرَثَةِ ابْتِدَاءً: عَطِيَّةٌ مِنْهُمْ، لَا تَتِمُّ إِلَّا بِالْقَبْضِ، وَلَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا مَا لَمْ يُقْبِضْ. وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ القبض بطلت كالهبة.
والقول الثاني: إِجَازَةَ الْوَرَثَةِ إِمْضَاءٌ لِفِعْلِ الْمُوصِي، فَلَا تَفْتَقِرُ إِلَى قَبْضٍ، وَتَتِمُّ بِإِجَازَةِ الْوَارِثِ، وَقَبُولِ الْمُوصَى له، ليس الرُّجُوعُ بَعْدَ الْإِجَازَةِ، وَلَا تُبْطَلُ الْوَصِيَّةُ بِمَوْتِهِ بعد إجازته، وقبل إقباضه.
وإن لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ وَارِثٌ، فَأَوْصَى بِجَمِيعِ مَالِهِ: ردت الوصية إلى الثلث والباقي لبيت الْمَالِ وَقَالَ أبو حنيفة: وَصِيَّتُهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ نَافِذَةٌ فِي جَمِيعِ مَالِهِ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا مَنَعَ سَعْدًا مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ قَالَ: " لِأَنْ تَدَعَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ ".
فَجَعَلَ الْمَنْعَ مِنَ الزِّيَادَةِ حَقًّا لِلْوَرَثَةِ.
فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ سَقَطَ الْمَنْعُ. وَبِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ وَضَعَ مَالَهُ حَيْثُ شاء ".
ولأن من جازت له الصدقة بجميع ماله، جازت وَصِيَّتُهُ بِجَمِيعِ مَالِهِ.
وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْطَاكُمْ عِنْدَ وَفَاتِكُمْ ثُلُثَ أَمْوَالِكُمْ، زِيَادَةً فِي أَعْمَالِكُمْ ". وَلِأَنَّ الْأَنْصَارِيَّ أَعْتَقَ سِتَّةَ مَمْلُوكِينَ لَهُ، لَا مَالَ لَهُ غَيْرَهُمْ، فَجَزَّأَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ، فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ، وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً، وَلَمْ يكن له وارث ولأنه لو كان له وارث، لوقف عَلَى إِجَازَتِهِ، وَلِأَنَّ مَالَ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ يَصِيرُ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ إِرْثًا لِأَمْرَيْنِ:
أحدهما: أنه تخلف الورثة في استحقاق ماله.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَعْقِلُ عَنْهُ كَوَرَثَتِهِ. فَلَمَّا رُدَّتْ وصيته مع الوارث إلى الثلث رُدَّتْ إِلَى الثُّلُثِ مَعَ بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّهُ وارث.
وقد تحرر مِنْهُ قِيَاسَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ كُلَّ جِهَةٍ اسْتَحَقَّتِ التركة بالوفاة، منعت من الوصية بجميع المال كَالْوَرَثَةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ مَا مَنَعَ مِنَ الْوَصَايَا مَعَ الْوَرَثَةِ. مَنَعَ مِنْهَا مَعَ بَيْتِ الْمَالِ، كالديون.