" سُئِلَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ غلام يبلغ من غسان أوصى لِبِنْتِ عَمِّهِ وَلَهُ عَشْرُ سِنِينَ، وَلَهُ وَارِثٌ بِبَلَدٍ آخَرَ، فَأَجَازَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَصِيَّتَهُ، وَلِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ مُنِعَتْ عُقُودُهُ هو الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ أُمْضِيَتْ وَصِيَّتُهُ لِأَنَّ الْحَظَّ لَهُ فِي مَنْعِ الْعُقُودِ، لِأَنَّهُ لَا يَتَعَجَّلُ بها نفعا، ولا يقدر على استدراكها إِذَا بَلَغَ. وَالْحَظُّ لَهُ فِي إِمْضَاءِ الْوَصِيَّةِ لِأَنَّهُ إِنْ مَاتَ فَلَهُ ثَوَابُهَا وَذَلِكَ أَحَظُّ لَهُ مِنْ تَرْكِهِ عَلَى وَرَثَتِهِ. وَإِنْ عَاشَ وبلغ، وقدر على استدراكها بالرجوع فِيهَا فَعَلَى هَذَا: لَوْ أَعْتَقَ فِي مَرَضِهِ، أَوْ حَابَى، أَوْ وَهَبَ، فَفِي صِحَّةِ ذَلِكَ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ صَحِيحٌ مَمْضِيٌّ، لِأَنَّ ذَلِكَ وصية تعتبر في الثُّلُثِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ بَاطِلٌ مَرْدُودٌ، لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ يَقْدِرُ عَلَى الرُّجُوعِ فِيهَا إِنْ صَحَّ، وَالْعِتْقُ وَالْهِبَةُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الرُّجُوعِ فِيهِمَا إِنْ صَحَّ.
فَأَمَّا وَصِيَّةُ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بِسَفَهٍ، فَإِنْ قِيلَ بِجَوَازِ وَصِيَّةِ الصَّبِيِّ، فَوَصِيَّةُ السَّفِيهِ أجوز، وإن قبل بِبُطْلَانِ وَصِيَّةِ الصَّبِيِّ، كَانَتْ وَصِيَّةُ السَّفِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ، لِاخْتِلَافِهِمْ فِي تَعْلِيلِ وَصِيَّةِ الصَّبِيِّ، فَإِنْ عَلَّلَ فِي إِبْطَالِ وَصِيَّتِهِ بِارْتِفَاعِ الْقَلَمِ عَنْهُ جَازَتْ وَصِيَّةُ السَّفِيهِ لِجَرَيَانِ الْقَلَمِ عَلَيْهِ، وَإِنْ عَلَّلَ فِي إِبْطَالِ وَصِيَّةِ الصَّبِيِّ بِإِبْطَالِ عُقُودِهِ، بَطَلَتْ وَصِيَّةُ السَّفِيهِ لِبُطْلَانِ عُقُودِهِ.
وَأَمَّا الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ بِالْفَلْسِ، فَإِنْ رَدَّهَا الْغُرَمَاءُ بَطَلَتْ. وَإِنْ أَمْضَوْهَا جَازَتْ فَإِنْ قُلْنَا إِنَّ حَجْرَ الْفَلْسِ كَحَجْرِ الْمَرَضِ صَحَّتْ. وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ كَحَجْرِ السفيه كانت على وجهين:
وأما الْعَبْدُ فَوَصِيَّتُهُ بَاطِلَةٌ. وَكَذَلِكَ الْمُدَبَّرُ، وَأُمُّ الْوَلَدِ، وَالْمُكَاتَبُ، لِأَنَّ السَّيِّدَ أَمْلَكُ مِنْهُمْ لِمَا فِي أَيْدِيهِمْ.
فَأَمَّا الْكَافِرُ: فَوَصِيَّتُهُ جَائِزَةٌ، ذِمِّيًّا كَانَ أو حربيا، إذا وصى بمثل ما وصى به المسلم.
فأما الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي الْمُوصَى لَهُ.
فَتَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لِكُلِّ مَنْ جَازَ الْوَقْفُ عَلَيْهِ، مِنْ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ، وَعَاقِلٍ وَمَجْنُونٍ، وَمَوْجُودٍ وَمَعْدُومٍ، إِذَا لَمْ يَكُنْ وَارِثًا، وَلَا قَاتِلًا.
فَأَمَّا الْوَارِثُ فَلِقَوْلِهِ عليه السلام: " لا وصية لوارث " ولو وَصَّى لِأَحَدِ وَرَثَتِهِ، كَانَ فِي الْوَصِيَّةِ قَوْلَانِ أحدهما: باطلة إذ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى إلا أن يستأنفه الْوَرَثَةُ الْبَاقُونَ هِبَتَهَا لَهُ بَعْدَ إِحَاطَةِ عِلْمِهِمْ بما يبذل منهم، وقبول منه، وقبض تلتزم بِهِ الْهِبَةُ، كَسَائِرِ الْهِبَاتِ، فَتَكُونُ هِبَةً مَحْضَةً لا تجري فيها حُكْمُ الْوَصِيَّةِ. وَهَذَا قَوْلُ الْمُزَنِيِّ.
وَالثَّانِي: إِنَّهَا مَوْقُوفَةٌ عَلَى إِجَازَةِ الْبَاقِينَ مِنَ الْوَرَثَةِ، كَالْوَصِيَّةِ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ، فَإِنْ أَجَازَهَا الْبَاقُونَ مِنَ الْوَرَثَةِ: صَحَّتْ، وَإِنْ رَدُّوهَا رَجَعَتْ مِيرَاثًا، وكان الموصى له به كَأَحَدِهِمْ، يَأْخُذُ فَرْضَهُ مِنْهَا، وَإِنْ أَجَازَهَا بَعْضُهُمْ وَرَدَّهَا بَعْضُهُمْ صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ فِي حِصَّةِ مَنْ