وَقَالَ أبو يوسف: حَرِيمُ بِئْرِ الْعَطَنِ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا إِلَّا أَنْ يَكُونَ رِشَاؤُهُ أَبْعَدَ فَتَكُونَ لَهُ مُنْتَهَى رِشَائِهِ، وَحَرِيمُ النَّهْرِ مَلْقَى طِينَةٍ عِنْدَ حَفْرِهِ، وَحَرِيمُ الْفَنَاءِ مَا لَمْ يَسْمَحْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَكَانَ جَامِعًا لِلْمَاءِ، وَالْعُرْفُ فِي ذَلِكَ أَوْلَى مِنْ تَحْدِيدِ مَا لَمْ يَتَقَدَّرْ شَرْعًا وَلَا قِيَاسًا، فَلَوْ حَفَرَ بِئْرًا فِي مَوَاتٍ فَمَلَكَهَا وَحَرِيمَهَا ثُمَّ حَفَرَ آخَر من بعد الحريم بئراً أخرى فنصب مَاءُ الْأُولَى إِلَيْهَا وَغَارَ فِيهَا قَالَ مَالِكٌ: يُمْنَعُ الثَّانِي وَيَطِمُّ عَلَيْهِ بِئْرُهُ، وَهَكَذَا لَوْ حَفَرَ الثَّانِي بِئْرًا طَهُورًا فَتَغَيَّرَ مَاءُ الْأُولَى طَمَّتِ الثَّانِيَةُ عَلَى صَاحِبِهَا، وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وأبو حنيفة إِلَى أَنَّ بِئْرَ الثَّانِي مُقَرَّةٌ وَإِنْ نَضَبَ بِهَا مَاءُ الْأُولَى أَوْ تَغَيَّرَ، لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْأَوَّلِ فِيمَا جَاوَزَ حَرِيمَ مِلْكِهِ وَلَوِ اسْتَحَقَّ الْمَنْعَ لِتَقْدِيرِ الْحَرِيمِ.
قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَمَنْ أَقْطَعَ أَرْضًا أَوْ تَحَجَّرَهَا فَلَمْ يُعْمِرْهَا رَأَيْتُ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يَقُولَ لَهُ إِنْ أَحْيَيْتَهَا وَإِلَّا خَلَّيْنَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَنْ يُحْيِيهَا فَإِنْ تَأَجَّلَهُ رَأَيْتُ أَنْ يَفْعَلَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا تَحَجَّرَ أَرْضٌ مَوَاتٌ بِإِقْطَاعٍ أَوْ غَيْرِ إِقْطَاعٍ فَقَدْ صَارَ بِالْحَجْرِ عَلَيْهَا أَحَقَّ النَّاسِ بِهَا، لِثُبُوتِ يَدِهِ عَلَيْهَا، وَلَهُ بعد ذلك أربعة أحوال:
أحدها: أَنْ يَأْخُذَ فِي الْإِحْيَاءِ وَيَشْرَعَ فِي الْعِمَارَةِ فَلَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ فِيهَا وَهُوَ أَحَقُّ النَّاسِ بِهَا حَتَّى يَسْتَكْمِلَ الْعِمَارَةَ وَيُتِمَّ الْإِحْيَاءَ، فَلَوْ غلب عليها وأكمل المتغلب إحيائها فَذَلِكَ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ تَغَلَّبَ عَلَيْهَا قَبْلَ أَنْ يَشْرَعَ الْمُحْيِي فِي عِمَارَتِهَا فَيَكُونُ مِلْكًا لِلْمُتَغَلِّبِ الْمُحْيِي دُونَ الْمُحْجِرِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَدْ تَغَلَّبَ عَلَيْهَا بَعْدَ أَنْ شَرَعَ الْمُحْجِرُ فِي عِمَارَتِهَا وَقَبْلَ اسْتِكْمَالِهَا فَأَكْمَلَ الْمُتَغَلِّبُ الْإِحْيَاءَ وَتَمَّمَ الْعِمَارَةَ فَفِيهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مِلْكٌ لِلْمُحْجِرِ، لِمَا اسْتَقَرَّ مِنْ ثُبُوتِ يَدِهِ وَتَقَدُّمِ عِمَارَتِهِ، وَيَصِيرُ الْمُتَغَلِّبُ مُتَطَوِّعًا بِنَفَقَتِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا مِلْكٌ لِلْمُتَغَلِّبِ الْمُحْيِي، لِأَنَّهُ أَحْدَثَ مَا بِهِ يَتِمُّ الْإِحْيَاءُ وَيَسْتَقِرُّ الملك.
: والحالة الثَّانِيَةُ: أَنْ يُوَلِّيَهَا الْمُحْجِرُ لِغَيْرِهِ وَيُسَلِّمَهَا إِلَيْهِ فَهَذَا جَائِزٌ وَيَصِيرُ الثَّانِي أَحَقَّ بِهَا مِنَ النَّاسِ كُلِّهِمْ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ قَدْ أَقَامَهُ فِيهَا مَقَامَ نَفْسِهِ وَلَيْسَتْ هِبَةً مِنْهُ وَإِنَّمَا هِيَ تَوْلِيَةٌ وَإِيثَارٌ، وَهَكَذَا لَوْ مَاتَ الْمُحْجِرُ كَانَ وَارِثُهُ قَائِمًا مَقَامَهُ فِي إِحْيَائِهَا وَأَحَقَّ النَّاسِ بَعْدَهُ، لِأَنَّ حُقُوقَهُ بِمَوْتِهِ تَصِيرُ مُنْتَقِلَةً إِلَى وَرَثَتِهِ فَأَمَّا إِنْ جُنَّ الْمُحْجِرُ فَلَا حَقَّ فيه لِوَرَثَتِهِ، لِأَنَّ الْحَيَّ لَا يُورَثُ وَلَكِنْ يَقُومُ وَلِيُّهُ مَقَامَهُ فِي إِحْيَائِهَا لِلْمُحْجِرِ الْمَجْنُونِ لَا لِنَفْسِهِ فَإِنْ أَحْيَاهَا الْوَلِيُّ لِنَفَسِهِ صَارَ كَمَنْ غَلَبَ عَلَى أَرْضٍ مَوَاتٍ قَدْ حَجَرَهَا إِنْسَانٌ فَأَحْيَاهَا فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى.
فَصْلٌ
: وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَبِيعَهَا الْمُحْجِرُ قَبْلَ الْعِمَارَةِ، فَفِي جَوَازِ بَيْعِهِ وَجْهَانِ: