وَالصُّلْحُ عَلَى الْإِنْكَارِ مُحَرِّمٌ لِلْحَلَالِ وَمُحِلٌّ لِلْحَرَامِ لِأَنَّهُ يُحِلُّ الْمُعَاوَضَةَ عَلَى غَيْرِ حَقٍّ ثَابِتٍ وَذَلِكَ حَرَامٌ. وَيُحَرِّمُ عَلَى الْمُدَّعِي بَاقِيَ حَقِّهِ وَذَلِكَ حَلَالٌ.
وَلِأَنَّهُ صُلْحٌ عَلَى مُجَرَّدِ الدَّعْوَى فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا كَمَا لَوِ ادَّعَى قَتْلَ عَمْدٍ فَصُولِحَ عَلَيْهِ مَعَ الْإِنْكَارِ. وَلِأَنَّهُ اعْتَاشَ عَنْ حَقٍّ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَمْلِكَ عِوَضَهُ. أَصْلُهُ إِذَا ادَّعَى وَصِيَّةً فَصُولِحَ بِمَالٍ. وَلِأَنَّهُ صَالَحَ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ صِدْقَهُ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَصِحَّ كَمَا لَوْ عَلِمَ كَذِبَهُ.
وَلِأَنَّهُ نَوْعُ مُعَاوَضَةٍ لَا يَصِحُّ مَعَ الْجَهَالَةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَصِحَّ مَعَ الْإِنْكَارِ كَالْبَيْعِ.
وَلِأَنَّ الصُّلْحَ لَمَّا لَمْ يَجُزْ عَلَى مَجْهُولِ الْوَصْفِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَجُوزَ عَلَى مَجْهُولِ الْعَيْنِ.
وَلِأَنَّ الْمَبْذُولَ بِالصُّلْحِ لا يخلو من أربعة أحوال:
[الأول] : إما أن يكون مبذولا لكف الأذى.
[الثاني] : أو يكون مبذولا لقطع الدعوى.
[الثالث] : أو يكون مبذولا للإعفاء من اليمين.
[الرابع] : أَوْ يَكُونَ مَبْذُولًا لِلْمُعَاوَضَةِ. فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مَبْذُولًا لِدَفْعِ الْأَذَى لِأَنَّهُ مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ. وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ لِقَطْعِ الدَّعْوَى لِمَا فِيهِ مِنَ اعْتِبَارِ مَا يَمْنَعُ مِنَ الرِّبَا وَهُوَ: إِذَا كَانَ الْحَقُّ أَلْفًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُصَالِحَهُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْهَا. وَلَوْ كَانَ دَرَاهِمَ صُولِحَ عَلَيْهَا بِدَنَانِيرَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُفَارِقَهُ قَبْلَ قَبْضِهَا وَلَوْ كَانَ لِقَطْعِ الدَّعْوَى لَجَازَ الِافْتِرَاقُ. وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ لِلْإِعْفَاءِ مِنَ الْيَمِينِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَمْرَيْنِ فَثَبَتَ أَنَّهُ مَبْذُولٌ لِلْمُعَاوَضَةِ.
وَالْمُعَاوَضَةُ تَصِحُّ مَعَ الْإِقْرَارِ وَتَبْطُلُ مَعَ الْإِنْكَارِ، لِأَنَّ مَا لَمْ يَجِبْ مِنَ الْحُقُوقِ لَمْ يَجُزِ الْمُعَاوَضَةُ عَلَيْهِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ [بِالْآيَةِ فَهُوَ أَنَّهَا مَخْصُوصَةٌ بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الدَّلَائِلِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ] " كُلُّ مال وفى الْمَرْءُ بِهِ عِرْضَهُ فَهُوَ صَدَقَةٌ ". فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ بِهِ الْبِرُّ لِأَنَّ بَذْلَ الْمَالِ لَا يَخْلُو الْمَقْصُودُ بِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ:
[الأول] : إِمَّا أَنْ يُقْصَدَ بِهِ الْقُرْبَةُ وَهُوَ الصَّدَقَةُ.
[الثاني] : أو الصلة وهو الهبة.