الحاوي الكبير (صفحة 2633)

وَالثَّانِي: مَعْرِفَةُ قَدْرِ مَا يَسْتَحِقُّهُ الْمُصَالِحُ بِالْإِرْثِ مِنْهَا.

وَالثَّالِثُ: كَوْنُ الْعِوَضِ مَعْلُومًا تَنْتَفِي الْجَهَالَةُ عَنْهُ.

فَإِنْ لَمْ يُشَاهِدِ التَّرِكَةَ أَوْ جَهِلَا حِصَّةَ الْمُصَالِحِ أَوْ قَدْرَ الْعِوَضِ بَطَلَ الصُّلْحُ.

(مسألة)

قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوِ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ حَقًّا فَصَالَحَهُ مِنْ دَعْوَاهُ وَهُوَ مُنْكِرٌ فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ وَيَرْجِعُ الْمُدَّعِي عَلَى دَعْوَاهُ وَيَأْخُذُ مِنْهُ صَاحِبُهُ مَا أعطاه ".

قال الماوردي: وهذا كما قال بالصلح عَلَى الْإِنْكَارِ بَاطِلٌ حَتَّى يُصَالِحَ بَعْدَ الْإِقْرَارِ بِالدَّعْوَى.

وَقَالَ أبو حنيفة وَمَالِكٌ يَجُوزُ الصُّلْحُ مَعَ الْإِنْكَارِ اسْتِدْلَالًا بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128] وَلِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " كُلُّ مَا وَقَى الْمَرْءُ بِهِ عِرْضَهُ فَهُوَ صَدَقَةٌ ".

وَالصَّدَقَةُ تُسْتَحَبُّ لِبَاذِلِهَا وَتَحِلُّ لِآخِذِهَا فَهَكَذَا الصُّلْحُ. وَلِأَنَّهُ بَذَلَ مَالًا فِي الصُّلْحِ مُخْتَارًا فَصَحَّ كَالْمُقِرِّ بِهِ. وَلِأَنَّهُ مُدَّعٍ لَمْ يُعْلَمْ كَذِبُهُ فَصَحَّ صُلْحُهُ كَالْمُقَرِّ لَهُ.

وَلِأَنَّ اخْتِلَافَ الْأَسَامِي يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْمَعَانِي، فَلَمَّا اخْتَصَّ الصُّلْحُ بِاسْمٍ غَيْرِ الْبَيْعِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُخَالِفًا لِحُكْمِ الْبَيْعِ وَلَوْ كَانَ لَا يَجُوزُ إِلَّا بَعْدَ الْإِقْرَارِ لَكَانَ بَيْعًا مَحْضًا وَلَمْ يَكُنْ لِاخْتِصَاصِهِ بِاسْمِ الصُّلْحِ مَعْنًى وَلِأَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الْأُصُولِ بِالْآخِذِ دُونَ الْبَاذِلِ. أَلَا تَرَى أَنَّ شَاهِدًا لَوْ شَهِدَ عَلَى رَجُلٍ بِعِتْقِ عَبْدِهِ فَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ ثُمَّ ابْتَاعَهُ الشَّاهِدُ مِنْهُ حَلَّ لَهُ أَخْذُ ثَمَنِهِ لِاعْتِقَادِ إِحْلَالِهِ. وَإِنْ كَانَ الْبَاذِلُ مُعْتَقِدًا لِتَحْرِيمِهِ فَكَذَلِكَ الصُّلْحُ يَحِلُّ لِلْآخِذِ وَإِنْ كَانَ الْبَاذِلُ مُنْكِرًا.

وَلِأَنَّ فِي الْمَنْعِ مِنَ الصُّلْحِ مَعَ الْإِنْكَارِ مَنْعًا مِنَ الصُّلْحِ بِكُلِّ حَالٍ لِأَنَّهُ يُبْعِدُ الصُّلْحَ مَعَ الْإِقْرَارِ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ مَحَلٌّ إِلَّا مَعَ الْإِنْكَارِ.

وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188] وَالصُّلْحُ عَلَى الْإِنْكَارِ مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ. لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ حَقٌّ يَجُوزُ أَنْ يُعَاوَضَ عَلَيْهِ.

وَمَا رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا صُلْحًا أَحَلَّ حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا ".

طور بواسطة نورين ميديا © 2015