وَرُوِيَ " إِنِّي إِذًا صائمٌ ".
وَالدَّلَالَةُ فِي هَذَا الخبر في ثلاثة أوجه:
أحدهما: أَنَّ الْتِمَاسَهُ الطَّعَامَ لِيَأْكُلَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُفْطِرًا إِذْ لَوْ كَانَ صَائِمًا مَا الْتَمَسَ طَعَامًا وَلَا أَهَمَّ بِالْإِفْطَارِ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا الْتَمَسَهُ لِوَقْتِ الْإِفْطَارِ لَا لِلْأَكْلِ، فِي الْحَالِ، قُلْنَا: لَوْ كَانَ هَذَا مُرَادَهُ لَقَالَ هَلْ مِنْ عَشَاءٍ، فَلَمَّا قَالَ: هَلْ مِنْ غَدَاءٍ عُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ أَكْلَهُ فِي الْحَالِ فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ خَبَرَ مَنْزِلِهِ، قُلْنَا: هَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ ظَاهِرَ قوله " هل عندكم من غذاءٍ أتغذى بِهِ " يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا: لَا قَالَ: " إِنِّي صَائِمٌ " فَعَقَّبَ ذَلِكَ بِمَا دَلَّ عَلَى مُرَادِهِ عَلَى أَنَّا رَوَيْنَا أَنَّهُ كَانَ إذا أحضروا الغذاء أَكَلَ، وَإِنْ لَمْ يُحْضِرُوهُ قَالَ إِنِّي صَائِمٌ.
وَالدَّلِيلُ الثَّانِي: مِنَ الْخَبَرِ أَنَّهُ لَمَّا أَخْبَرَ بِصِيَامِهِ عِنْدَ فَقْدِ الطَّعَامِ دَلَّ عَلَى حُدُوثِ نِيَّتِهِ، وَأَنَّ صَوْمَهُ إِنَّمَا كَانَ لِفَقْدِهِ لِيَكُونَ الْحُكْمُ مَحْمُولًا عَلَى سُنَّتِهِ.
وَالدَّلِيلُ الثَّالِثُ مِنْهُ: قَوْلُهُ " إِنِّي إِذًا صَائِمٌ " فَمَعْلُومٌ أَنَّ إِذًا للابتداء والاستثناء لا لِمَا مَضَى، وَتَقَدَّمَ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى: أَنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ يَتَنَوَّعُ جِنْسُهَا فَرْضًا وَنَفْلًا وَيُخْرَجُ مِنْهَا بِالْفَسَادِ، فَوَجَبَ أن يخالف نفلها فرضها في تَرْكِ التَّوَجُّهِ، وَالْقِيَامِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ الْحَجُّ لِأَنَّهُ لَا يُخْرَجُ مِنْهُ بِالْفَسَادِ، فَإِنْ قِيلَ: قَدْ يَخْتَلِفُ فَرْضُ الصِّيَامِ ونفله في كفارة الوطئ قُلْنَا: لَيْسَتِ الْكَفَّارَةُ مِنْ أَفْعَالِ الصَّوْمِ وَإِنَّمَا هِيَ مُوجِبَاتُ إِفْسَادِهِ عَلَى أَنَّ الْكَفَّارَةَ إِنَّمَا تلزم لجرمة رَمَضَانَ لَا لِفَرْضِ الصِّيَامِ، فَأَمَّا تَعَلُّقُهُمْ بِعُمُومِ الْخَبَرِ فَمَخْصُوصٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الصَّلَاةِ فَالْمَعْنَى فِيهَا مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْفَرْضَ مِنْهَا يُخَالِفُ النَّفْلَ مِنْ وُجُوهٍ، فَجَازَ أَنْ يَتَّفِقَا فِي النِّيَّةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الصِّيَامُ عَلَى أَنَّ نِيَّةَ الصِّيَامِ لَمَّا جَازَ تَقَدُّمُهَا جَازَ تَأْخِيرُهَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الصَّلَاةُ.
: فَإِذَا تَقَرَّرَ جَوَازُ النِّيَّةِ فِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ نَهَارًا قَبْلَ الزَّوَالِ، فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَنْوِيَ فِيهِ بَعْدَ الزَّوَالِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ ظَاهِرُ مَا نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ وَالرَّبِيعُ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي نِيَّةِ الصِّيَامِ أَنَّ مَحَلَّهَا اللَّيْلُ لِلْخَبَرِ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ قام الدليل على جوازها قبل الزوال، وتبقى مَا بَعْدَهُ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ ظَاهِرُ مَا نَقَلَهُ حَرْمَلَةُ جَوَازُهُ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ اللَّيْلُ مَحَلًا لِلنِّيَّةِ فِي