قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْأَقْوَاتِ الْمُدَّخَرَةِ، هَلْ هِيَ عَلَى التَّرْتِيبِ أَوْ عَلَى التخيير؟ فله فيه قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: نَصَّ عَلَيْهِ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ أَنَّهَا عَلَى التَّخْيِيرِ، وَالْمُزَكِّي مُخَيَّرٌ بَيْنَ جَمِيعِهَا، فَمِنْ أَيِّهَا أَخْرَجَ أَجَزْأَهُ، لِمَا رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تمرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شعيرٍ فَجَاءَ بِلَفْظِ التَّخْيِيرِ، وَلِأَنَّ زَكَاةَ الْفِطْرِ مُوَاسَاةٌ وَالتَّخْيِيرُ فِيهَا أَيْسَرُ والتسوية بين جميعها أرفق، فعلى هذا من أي قوت أَخْرَجَهَا أَجْزَأَهُ، وَبَعْضُ الْأَقْوَاتِ أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ فَالتَّمْرُ وَالْبُرُّ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِمَا، وَفِي أَوْلَاهُمَا لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ التَّمْرَ أَوْلَى.
وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ ابْنُ عُمَرَ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان يخرج، وَعَمَلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ جَارٍ بِهِ، وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " الْكَمْأَةُ مِنَ الْمَنِّ وَفِي مَائِهَا شفاءٌ للعين، والعجوة من الخير، وَفِيهَا شفاءٌ مِنَ السُّمِّ ".
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَقَدْ مَالَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ أَنَّ الْبُرَّ أَوْلَى.
وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَمِنَ الْفُقَهَاءِ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ أنه قال الآن قد أوسع عليكم فأخرجوا البر، ولأن التمر مجمع عليه عَلَى أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ مِنْهُ أَقَلَّ مِنْ صاع، والبر مختلف فيه، وكان ما اختلفوا فيه هل يجزي أَقَلُّ مِنْ صَاعٍ أَمْ لَا؟ أَوْلَى مِمَّا أجمعوا على أنه لا يجزي مِنْهُ أَقَلَّ مِنْ صَاعٍ، وَلَوْ قِيلَ: إِنَّ أَوْلَاهُمَا مُخْتَلِفٌ بِاخْتِلَافِ الْبِلَادِ لَكَانَ مَذْهَبًا، وَلَكَانَ لَهُ فِي الِاعْتِبَارِ وَجْهٌ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: فِي الأقل وَهُوَ نَصُّ الشَّافِعِيِّ هَاهُنَا وَفِي أَكْثَرِ الْكُتُبِ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى التَّرْتِيبِ دُونَ التَّخْيِيرِ، وَالِاعْتِبَارُ فِيهِ بِغَالِبِ الْقُوتِ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَغْنُوهُمْ عَنِ الطَّلَبِ فِي هَذَا الْيَوْمِ " وَالْإِغْنَاءُ يكون بما يكفيه الْإِنْسَانُ مِنْ غَالِبِ الْقُوتِ فَلَوْ كَانَ الْمُزَكِّي مُخَيَّرًا فِيهِ، لَجَازَ أَنْ يُعْطِيَهُ مَا لَيْسَ بِغَالِبِ الْقُوتِ فَلَا يَسْتَغْنِي بِهِ، وَإِذَا أَعْطَاهُ مِنْ غَالِبِ الْقُوتِ صَارَ مُسْتَغْنِيًا بِهِ، فَعَلَى هذا هل يُعْتَبَرُ غَالِبُ قُوتِ بَلَدِهِ أَوْ غَالِبُ قُوتِهِ فِي نَفْسِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ هَاهُنَا، وَفِي " الْأُمِّ " وَبِهِ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ وَأَبُو عُبَيْدِ بْنُ حَرْبَوَيْهِ مِنْ أَصْحَابِنَا: إِنَّ الِاعْتِبَارَ بِغَالِبِ قُوتِهِ فِي نَفْسِهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ