مما سبق يتضح لنا أن الصحابة انتفعوا بالقرآن عندما تعاملوا مع أمره من أوله، وعاشوا مع حقيقته، ونهلوا من منابع الإيمان المتجددة فيه، فصاروا من أهله، وانجذبوا إليه فسيطر على مشاعرهم بصورة لم يمكن تصديقها، وإليك أخي القارئ مثالا عجيبًا لذلك:
رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من الصحابة من غزوة ذات الرقاع، وبعد جهد جهيد جاء الليل وأراد الجميع النوم، وكان لابد من حُرَّاس يحرسون المسلمين عند نومهم، فقام بهذه المهمة الصحابيان عبَّاد بن بشر وعمار بن ياسر، وتناوب الاثنان على الحراسة، وبدأ بها عبّاد ونام عمّار، فلما رأى أن المكان آمن صلى، فجاء أحد المشركين فرماه بسهم فنزعه وأكمل صلاته، ثم رماه بسهم ثان فنزعه وأكمل صلاته، ثم رماه بثالث فنزعه وأنهى التلاوة وأيقظ عمارًا وهو ساجد، فلما سأله عمار لِمَ لمْ يوقظه أول ما رُمي؟ فأجاب: "كنت في سورة أقرؤها، فلم أُحب أن أقطعها حتى أنفدها فلما تابع علىّ الرمي ركعت فآذنتك، وأيم الله لولا أن أضيع ثغرًا أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظه لقطع نفسي قبل أن أقطعها أو أنفدها" (?).
فإن كنت في شك من قدرة القرآن على الهيمنة على مشاعر الإنسان والسيطرة عليها فسل نفسك: لماذا ظل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يردد قوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} (طه:114) في ليلة حتى أصبح؟ ولماذا استمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه يردد في الفاتحة طيلة الليل؟! (?) وغيرهم وغيرهم.
إنها حلاوة الإيمان، وخشوع القلب، ولذة القرب الحقيقي من الله، والشعور بالتغيير الذي يحدث لهم كلما رددوا الآية التي تحركت معها قلوبهم .. فهل من يعيش في هذه الأجواء، ويرى النور بعينه، يعود إلى الوراء، ويستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، فيقرأ القرآن بلسانه وهو غافل عنه؟!
من هنا ندرك أهمية القرآن كمنهج أساسي لتتغير الذي حدث لجيل الصحابة رضوان الله عليهم.
ومع المنهج العظيم المتكامل كان لابد من وجود موجه ومشرف ومتابع لسير عملية التغيير، ليتأكد من جودة النتاج وطيب الثمار، ولقد قام بهذا الدور المهم معلم البشرية، المربي العظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (الجمعة:2).
لم يكن صلى الله عليه وسلم معلمًا فقط، يُعطي توجيهاته للناس ويتركهم، بل كان معهم يعايشهم، ويتابعهم ويوجههم .. يشرح القرآن، ويؤكد معانيه .. يربط أحداث الحياة بالله عز وجل، ويرغب في الآخرة، ويُزَهِّد في الدنيا، ويُزكي النفوس، ويضبط المفاهيم، وينظم الحركة، وإليك أمثلة تؤكد ذلك:
في مجال ربط أحداث الحياة بالله عز وجل: نراه صلى الله عليه وسلم يؤكد لأصحابه على معاني الإيمان بالله وبأسمائه وصفاته، وعلى معاني العبودية له سبحانه، ويربط بين هذه المعاني وبين ما يحدث في الحياة، ففي الهجرة عندما دخل هو وصاحبه أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلى غار ثور شعر أبو بكر بقرب المشركين من الغار وأنهم قاب قوسين أو أدنى من رؤيتهما فقال له صلى الله عليه وسلم كما جاء في القرآن: {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} (التوبة:40).