هذه الرسائل تأتي من الله عز وجل لعباده باستمرار لينتبهوا من رقدتهم ويفيقوا من غفلتهم: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} (الرعد:2).

وكلما ربط العبد أحداث حياته بالله عز وجل، ازدادت معرفته وتعلقه به سبحانه، وتحسنت علاقته ومعاملته له، وازداد زهده في الناس، ولم لا وهو لا يرى إلا الله وراء كل ما يحدث له، فإذا تغيرت عليه زوجته وساء خلقها معه رأى في ذلك عقوبة من الله عز وجل فسارع بالاستغفار والتوبة، وإذا ما تأخر حدوث شيء يتمناه رأى حكمة الله وراء هذا التأخير، وإذا ساعده أحد في إنجاز عمله رأى التأييد والتيسير الإلهي من وراء ذلك.

وهكذا يربط أحداث حياته بالله عز وجل، فيثمر ذلك إخلاصًا تامًا وصدقًا حقيقيًا في التوجه إليه، واستشعار قربه سبحانه منه، فيعبده وكأنه يراه، وتصير مناجاته والخلوة به من أحب الأشياء إليه، ويؤدي ذلك أيضًا إلى الزهد في الناس وقطع الطمع فيما في أيديهم.

- دليل المعرفة:

هذا الكون الفسيح وما فيه من مخلوقات لا تعد ولا تحصى، وهذه الأحداث اليومية المتعاقبة والمتشابكة قد لا يحسن العبد الاعتبار بها وفهمها عن الله عز وجل، مما يستلزم وجود مرجع ودليل يدل العبد على كيفية معرفة الله، وحسن التعامل مع آياته .. من هنا كانت الحاجة إلى دليل يدل الناس ويعلمهم كيفية قراءة الآيات الكونية وفك شفرتها، والاستدلال من خلالها على الله عز وجل .. من أجل هذا كانت الرسالة الإلهية الأخيرة والتي أرسلها الله عز وجل للبشرية جمعاء وتحمل في طياتها مفاتيح السعادة والهداية والشفاء: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} (يونس:57).

ومن أهم ما تحمله هذه الرسالة للبشر: تعريفهم بربهم، وبأسمائه وصفاته وآثارها من الناحية النظرية، مع تعريفهم كذلك بكيفية ربط هذه المعرفة النظرية بالمعرفة العملية في الكون المنظور فتتشابك المعرفة النظرية بالعملية ليتمكن بذلك مدلولها في يقين الإنسان وإيمانه.

مثال: الله عز وجل أخبر عباده بأنه قادر على نصرة المظلوم بقوله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} وأعطى لعباده أدلة من الكون المنظور على ذلك فقال سبحانه وتعالى في الآية التالية للآية السابقة: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} (الحج:60،61).

فالذي يستطيع أن يأتي بالليل والنهار كل يوم، يستطيع بلا شك أن يفعل ما دون ذلك من نصرة المظلوم وإقامة الحق والعدل.

ومثال آخر: أن الله عز وجل أخبر رسوله بأنه قد استهزئ برسل من قبله، فكان العقاب الأليم لهؤلاء المستهزئين، هذا من الناحية النظرية أما من الناحية العملية فتأتي الآية التالية لتحثنا على السير في الأرض والبحث عن مآل هؤلاء ليترسخ هذا المفهوم لدينا: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ? قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} (الأنعام:10، 11).

إذن فالقرآن هو دليلنا إلى معرفة الله عز وجل، والكون هو التطبيق العملي للمعرفة القرآنية: {سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (فصلت:53).

طور بواسطة نورين ميديا © 2015