من هنا ندرك أهمية عبادة التفكر وقيمتها العظمى في تعريف العبد بربه وما تؤدي إليه من حسن تعامله معه. تأمل معي قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ? الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (آل عمران:190، 191).
فعندما تفكر هؤلاء المؤمنون - الذين ذكرتهم الآية - في المخلوقات وما تحمل من آيات ودلائل وعِبَر أثمر هذا التفكر بالله عز وجل: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا}، وأثمرت هذه المعرفة تنزيهًا وخشية له {سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}.
إذن فطريق المعرفة يبدأ بالتفكر في مخلوقات الله وما تحمله من رسائل تعريف به سبحانه وبأسمائه وصفاته.
{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (البقرة:164).
ومع آيات الله الدالة عليه، وعلى أسمائه وصفاته، والمبثوثة في مخلوقاته، تأتي صورة أخرى للآيات من خلال الرسائل التي يُرسلها - سبحانه وتعالى - لعباده والتي تتخلل مجريات وأحداث حياتهم اليومية، فما من يوم يمر على الإنسان - أي إنسان - إلا وفيه عدة رسائل موجهة إليه من ربه تعرفه به، وتذكره ببعض من صفاته.
فمن تلك الرسائل: رسائل الرحمة وما تدل عليه من أنه سبحانه وتعالى رحيم، لطيف، ومثال ذلك: ما يعتري الإنسان في يومه من أحداث كنسيان موعد من المواعيد فلا يذهب إليه ليكون ذلك سببًا في عدم تعرضه لمشاكل أو مخاطر كثيرة، وأيضًا قد ينفذ الوقود من سيارته في الوقت ذاته الذي يجد نفسه فيه أمام محطة تزويد وقود.
ومن الرسائل: رسائل الحكمة وما تدل عليه من أنه سبحانه وتعالى حكيم، ومثال ذلك: من يذهب إلى مكان من الأماكن وهو غير راغب في ذلك فيترتب على ذهابه خير كثير له.
ومنها: رسائل التخويف: وما تدل عليه من أنه سبحانه وتعالى عظيم، جبار، ... ويدل عليها قوله تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآَيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} (الإسراء:59).
ومثال ذلك الرعد، والبرق، والعواصف، الحر الشديد، الكسوف والخسوف ...
ومنها رسائل التأييد والجزاء السريع والحسن من الله عز وجل كتيسير الأمور، وانشراح الصدر، ... والتي يدل عليها قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى ? وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ? فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} (الليل: 5 - 7).
هذا التأييد وهذا التيسير، مرتبط باستقامة العبد وطاعته لربه، وعندما يحسن قراءة تلك الرسائل فإن ذلك من شأنه أن يدفعه لمزيد من الاستقامة.
ومنها رسائل العقوبة كجزاء للتفريط والعصيان وصور ذلك كثيرة، منها: تعسر الأمور، وضيق الصدر، والحرمان من الرزق، ... ويدل عليها قوله تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} (النساء:123).
فهذه أنواع ست للرسائل الإلهية التي تأتي العبد في يومه، وتحمل في طياتها دلائل تعرفه بالله عز وجل: {وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَأَيَّ آَيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ} (غافر:81).